07-مايو-2018

بدر عثمان

أسرفتَ كثيرًا في الترحالْ

وبحثتَ عن المعنى

حتى عميت عيناكْ

فاهدأ

فالمعنى سر

أجمل ما فيه

أنك تخفيه

 

رأيت المعري يطرد نقاده

من قصيدته:

لست أعمى

لأبصر ما تبصرون

فإن البصيرة نور يؤدي

إلى عدم، أو جنون

 

يقدّم الشاعر الفلسطيني بدر عثمان في ديوانه "كتاب الأعمى" (دار الفارابي، 2018)، الفائز قبل فترة بتوصية جائزة القطان 2018، تجديدًا تقنيًا لافتًا، ويلاحق مساحة غير مطروقة كثيرًا في الشعر المعاصر، إذ يطوعه بلغة سردية سلسة، جاعلًا الديوان رواية كاملة، بأحداث وقصة، فيعطي الشعر ما يستحقه من صور ومجاز، ويعطي السرد دوره في قص الحكاية.

في "كتاب الأعمى"، يأخذ بدر عثمان الشعر إلى منطق الرواية، دون التخلي عن الأدوات الشعرية

في الفصلين الأولين من الديوان، يشرح بدر عثمان عالم الأعمى، فيضع فهرسًا تفصيليًا لكيفية التعامل معه، "كتالوجًا" مصاحبًا لفهم ما الذي يعنيه الليل للأعمى؟ وكيف يفرق بالحرارة بين النهار والليل؟ ومن عصا الأعمى التي ترى الشوك والتراب، وحتى نظرته الإبيستيمولوجية للموجودات:

"يسرق الأشياء يسمعها

يمضغها عقله

كالماعز يمضغ العشب".

اقرأ/ي أيضًا: أوكتافيو باث.. مغامرة الشاعر

لكن سرعان ما يعود بدر عثمان "لنشأة" القرية في الفصل الثالث، القرية نفسها التي تعادل الكون بالنسبة للأعمى، ولكنه في هذا الفصل يبتعد عن لغة الحوار التي اتسمت بها الفصول الأولى لصالح السرد الشفوي من قبل أبيه. وعبر أيام ستة يصف بدر عثمان نشأة القرية، بعد أن كانت صحراء قاحلة، تضربها الرياح والرمال.

كتاب الأعمى

في الفصول اللاحقة تبتعد القصيدة عن الأعمى، وتستمر في وصف القرية. حياتها الاجتماعية، علاقتها مع الله والقرابين، وكيف يحكم أبو الأعمى القرية، وتذكر اختلاف الأعمى مع أبيه حول القرابين، فالأخير يرى أن على من لا يرغب بتقديم القرابين أن يقدمها مرغمًا، في حين أن الأعمى يقول:

"فأما من يقدم من نفسه قربانًا

فليفعل

وأما بالإكراه فما ذلك بالحق

ولا ذلك بالعمل الصالح".

تستمر القصيدة في سرد حكاية القرابين، فبالرغم من تقديم أهالي القرية للقرابين، إلا أن الله لم ينزل المطر، وكادت أن تصير صحراء عطشى كما كانت عليه قبل النشأة، وهذا ما دفع الأب وأهالي القرية إلى الخروج بحثًا عن الحياة، ولكن ما إن غادروا مع بقاء الأعمى وصاحبه الراعي والحارس الرسول حتى "كان المطر يصب القرية، يحولها بحرًا".

في هذه الفصول بالذات (حتى الفصل العاشر) يظهر تأثر بدر عثمان بالسرد الديني المسيحي، ولكنه يستند في اقتباساته إلى القرآن.

يعود صاحب ديوان "ترجمة باخ" في الفصول السبعة اللاحقة للاستغراق أكثر في نفس الأعمى. "هل تنام الجبال؟ يفكر الأعمى". يقول في الفصل الخامس عشر:

"كيف لا تحترق الشجرة

والنار في مكمنها،

قال الأعمى

يمشي إلى الطريق الجبال"

ينهي بدر عثمان الديوان بتأملات الأعمى وقد صار يقود الراعي إلى طريق البئر الأولى "كيف للراعي أن يرى؟ سأل الأعمى". وفي تنظير الأعمى حول العالم، يتوقع عثمان نهاية التاريخ هذه المرة "كما الليل الذي لم يتحرك، والذي كان آخر ليل في الكون، ولم يتبعه نهار أبدًا". ملخصًا الأعمى:
"هو فقط يعرف
ما هو".

على المستوى الفلسطيني تبدو تجربة بدر عثمان فريدة، إذ إنها تتميّز باجتماع أمرين، قل وجود أحدهما في تجارب الكتّاب الفلسطينيين مؤخرًا (شعرًا ونثرًا)، أولهما: ينأى الديوان، كما كتابات بدر عثمان بشكل عام، عن اليوميّ والكتابة المغرقة بتفاصيل الحياة الشخصية، وإذا ابتعدنا عن معركة الآراء المتضاربة حول هذا الموضوع، يبقى هذا النأي مميزًا وسط استغراق معظم الكتاب الفلسطينيين اليوم بالكتابة عن الظل والوردة وحياتهم الجامعية دون الالتفات لأي كتابة ملحمية، أو انتاج مشاريع ثقافية متكاملة.

يفارق بدر عثمان الشعر الفلسطيني الجديد بالذهاب إلى كتابة شعرية ملحمية

من ناحية أخرى تبدو فرادة ديوان بدر عثمان في توالد الصور الشعريّة بهذا الكم الضخم من عالم شخصية واحدة فقط، وهذا ما يجعل الديوان يبرهن على الحمولة اللامتناهية التي من الممكن أن تصنعها شخصية أو قضية أو حدث ما في قصيدة/ديوان.

اقرأ/ي أيضًا: حسام هلالي الفائز بجائزة أسامة الدناصوري: "لست كابوسيًا في كتاباتي"

إن ما يقرره الشعر هنا ناجز ومستقر، وأفكاره زبدة ما يجول في عقل مؤلفه؛ "أنا لا أقول الأشياء التي أقولها لأنني أفكر فيها، أنا اقولها لأنها لم تعد ما أفكر فيه"، وهذا ما جعل القصيدة هادئة، وسلسة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

باسكار شاكرابورتي.. شاعر يكتب الصمت

فوزي كريم.. ثلاثية نقدية