21-أبريل-2021

إحياء ذكرى عاشوراء في كربلاء 2020 (Getty)

ضجَّ العالم في العقد الأخير من القرن العشرين بالكثير من المفاهيم والسرديات الكبرى، والنظريات الفلسفية المعمقة، والتي اهتمت بتدشين "المابعدويات" والنهايات، كأطروحة نهاية الأيديولوجيا، ونهاية التاريخ، وما بعد العلمانية، وما بعد الحداثة، وما بعد الديمقراطية وما بعد الإسلاموية.

ضجَّ العالم في العقد الأخير من القرن العشرين بالكثير من المفاهيم والسرديات الكبرى، والنظريات الفلسفية المعمقة، والتي اهتمت بتدشين "المابعدويات" والنهايات

وما يجمع هذه المفاهيم أنها ظهرت في المجال التداولي الغربي وبعدها انتقلت إلى المجتمعات العربية، ومنها مفهوم "ما بعد الإسلاموية" الذي لقي صدى واسعًا، خصوصًا بعد عمليات التغيير والثورات التي شهدها العالم العربي، والتي أدّت إلى تحول بعض النظم من الاستبداد إلى الديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: حلاوة التسبيح على أصابع الحسين

في هذا السياق، جاء كتاب "آيات الله والديمقراطية في العراق" للمؤرخ الأمريكي خوان كول والصادر عن دار الرافدين العراقية، بترجمة وتعليق الدكتور نهار محمد.

لا تخرج دراسة خوان كول بعيدًا عن إطار مفهوم "ما بعد الإسلامية"، بل جاءت كمحاولة لتثبيت هذه الفكرة على أرض الواقع، فهو يرصد المواقف والآراء التي رافقت التيار الديني الشيعي بجناحيه الحركي والمرجعي في عراق ما بعد 2003.

وهنا لا بد من ذكر المقاربات النظرية التي عنيت بمفهوم "ما بعد الإسلاموية" قبل الخوض في تفاصيل الكتاب.

المقاربة الأولى: صاغها الباحثان الفرنسيان أوليفيه كاريه في كتابه اليوتوبيا الإسلاميّة في الشرق الأوسط، وأليفيه روا في مؤلفه فشل الإسلام السياسي، إذ يرى الباحثان "إن الإسلام السياسي أخفق في تقديم حلول للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في العالمين العربي والإسلامي، ما دفعه إلى تجاوز مقولاته القديمة والتسليم بضرورة الفصل بين المجالين الديني والسياسي".

المقاربة الثانية: يقدمها الباحث السوسيولوجي الأمريكي من أصل إيراني آصف بيات والذي يرى في مفهوم ما بعد الإسلاموية "محاولةٌ يقوم بها الإسلام السياسي لدمج التدين والحقوق، الإيمان والحريات، الإسلام والحرية، وهي محاولة لتحويل وقلب المبادئ الأساسية للإسلام رأسًا على عقب، بواسطة التأكيد على الحقوق بدلًا من الوجبات، وعلى التعددية بدلًا من الصوت الفردي السلطويّ، وعلى التاريخية بدلًا من النصوص الثابتة، وعلى المستقبل بدلًا من الماضي".

يرى آصف بيات أن ما بعد الإسلاموية محاولة يقوم بها الإسلام السياسي لدمج التدين والحقوق، الإيمان والحريات، الإسلام والحرية

المقاربة الثالثة والأخيرة: صاغها المفكر اللبناني علي حرب في كتابه الجهاد وآخرته ما بعد الأسلمة، إذ يرى "الحركات الإسلامية حركاتٌ جوهرانية ستاتيكيّة لا يمكن أن تتغيّر، وأنَ التغيرات عارضة وقشرية، لا تطال المضمون ولن تطول كثيرًا؛ ذلك لأنها لا تعدو كونها صيغًا تسترية بالدرجة الأولى، كما أنها ضرب من ضروب التلفيق الأيديولوجي بين الإسلام والديمقراطية". ويعتقد حرب أنَّ مرحلة ما بعد الإسلاموية يجب أن تقوم على عدة مبادئ، أهمها "تجاوز الصراع بين العقائد القديمة والمذاهب الحديثة، وتجاوز الكثير من الثنائيات الضدية مثل الإيمان والإلحاد... وكسر مقولة المبادئ صحيحة ولكن الترجمات والتطبيقات أو التأويلات هي سيئة وخاطئة".

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. "الحسين" وآيات الله في المخابرات

وبالعودة إلى كتاب كول فإنه يطرح في مستهل دراسته تساؤلات مهمة على غرار: "ما الذي دفع الزعامة الشيعية لمناصرة الانتخابات والسيادة الشعبية في عراق ما بعد البعث؟ وهل كان هذا الموقف جديدًا كليًا ضمن هذا التقليد، أم ثمة سوابق؟ وكيف تمكن هؤلاء المفكرون من التوفيق بين الملابسات العَلمانية التي انطوى عليها مفهوم السيادة الشعبية، وبين تفانيهم من أجل إقامة دولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية؟".

يعتقد كول أنَّ التشيع في العراق قد خضع إلى العديد من العمليات الإصلاحية، بدءًا من محاولة ترسيخ الحكم الدستوري الذي شيدت على أساسه العديد من النظريات من قبيل "ولاية الأمة على نفسها"، وغيرها من المحاولات التي هدفت إلى خلق نوع من الموائمة بين الديمقراطية ومفهوم الشورى في الإسلام، وكذلك إعادة قراءة الدين بما يتلاءم مع روح العصر.

يؤكد كول "إن الشخصيات القيادية البارزة حاولت التوفيق بين مبادئ الإسلام والمبادئ التنويرية"، وهو بذلك يقول: "لم تكن المقابلة بين هذين النظامين بجديدة فالعمل بالمتناقضات أمرٌ غير هين".

هذا التغييرات التي طرأت على الفكر الشيعي يرجعها كول إلى انتهاء سلالة الأئمة بالإمام الثاني عشر، إذ قيل إنه اختفى في عام 873 م بحسب السردية الشيعية وحصلت منطقة فراغ تشريعي أصابهم بالركود جراء عزوفهم عن ممارسة السلطة والمشاركة فيها، خلال تلك المدة ومع ذلك "كانوا على استعداد في أوقات كثيرة، لتجرع المعاناة من القانون العام (العرفي) أو الدولة المدنية حتى يتبين لهم ظهور ذلك المسيح الموعود".  لكن ذلك العزوف وعدم الاعتراف بشرعية السلطات لم يدم طويلًا إذ سرعان ما طفت على ساحة الفكر الشيعي الكثير من النظريات من قبيل نظرية "ولاية الفقيه"، والتي جاء بها الشيخ النراقي (1771 – 1828) في كتابه عوائد الأيام، وحصل وقتذاك الانقسام بين مؤيد لهذه النظرية وبين رافض لها، هذا الاختلاف وفي ظل الفراغ التشريعي الحاصل وعدم وجود آلية يتم من خلالها منح الشرعية للحاكم، لقيت ارتدادها على العصر الحديث إبان الحكم الملكي والجمهوري في العراق، وهنا يرى كول إنه "تم النظر للنظام الملكي وللجمهوريات والدول القومية كما لو أنها ضرورات مؤسفة، بل عُدّت  شرعيتها محدودة متجزأة ولا يمكن لإحداها العمل على افضل وجه الا بعودة الإمام المنشود".

خضع التشيع في العراق إلى العديد من العمليات الإصلاحية التي هدفت إلى خلق نوع من الموائمة بين الديمقراطية ومفهوم الشورى في الإسلام

هذه الحالة والنظرة المشككة والمتوجسة من الحكم والسلطة بقيت عند الشيعة حتى تمت إعادة إحياء وتطوير نظرية ولاية الفقيه وتطبيقها على أرض الواقع على يد الخميني في أواخر الستينات من القرن العشرين، إذ اعتقد الخميني "أنه في حالة غياب الإمام فإنه من الواجب على رجال الدين الشيعة المتمرسين أنّ يحكموا وفقًا للشرعية الإسلامية". رفض الخميني الديمقراطية قائلًا "إذا ما اختلف الناس مع النصوص الدينية عندها سيصبحون على خطأ".

وهنا طرح الكثير من منظري الدولة عند الشيعة رؤى مناقضة لما توصل اليه الخميني، إذ رفضوا الأدلة التي شيد عليها دولة ولاية الفقيه.

اقرأ/ي أيضًا: خلاف المرجعيات بين النجف وقم.. العراق لمن؟!

هذا التناقض الفج ولّد نظريات تقابل هذه النظرية عمادها أنها نحت منحى توفيقيًا قائمًا على الاعتراف بشريعة ومشروعية الحاكم المنتخب من قبل الأمة، ورفض الحكم الثيوقراطي، إذ ينقل كول عن أحد المثقفين الذين زاروا السيستاني في الوقت الذي يحاول الخيمني تصدير ثورته الى العراق، حيث إنَّ السيستاني أخبره "حتى لو اقتضى الأمر القضاء عليّ، سوف لن أسمح بتكرار تجربة إيران في العراق".

وفي عراق ما بعد 2003، أبدى رجال الدين العراقيين انفتاحًا متزايدًا تجاه فكرة السيادة الشعبية المعبر عنها بصندوق الاقتراع. وفي الوقت الذي أعلن فيه الحاكم المدني بول بريمر عن خطة تتكون من عدة مراحل اقتضت مرحلتها الأولى تعيين لجنة من العراقيين تعمل مع المستشارين الأمريكيين في صياغة دستور دائم جديد للعراق. الأمر الذي قوبل بالرفض من قبل أغلب رجال الدين الذين سرعان ما خرج أنصارهم في تظاهرات تطالب باحترام إرادة الشعب، واحترام الإسلام عبر تطبيق الشريعة "إذ أحدثت فكرة تعيين الحاكم الأمريكي المتنفذ للجنة تتولى كتابة الدستور إهانة لأول مبدأ من هذه المبادئ وهو مبدأ السيادة الشعبية المعبر عنها من خلال الانتخابات والاستفتاء"، وينقل كول عدة تصريحات ومواقف لرجال الدين حول الحكم الانتقالي إذ يرى "إنَّ علية القوم من رجال الدين بما فيهم السيستاني رأوا أنَّ الشرعية الحكومية تستمد من مصدرين، يرتكز أحدهما على ما يعرف بختم الموافقة الذي يمنحه آيات الله العظام، أما الآخر فيرتكز على إقرار أو موافقة الشعب من خلال الانتخاب العام".

ويحاول كول تعليل هذا التحول في أفكار رجال الدين وتنازلهم عن أحلامهم المقدسة بإقامة دولة إسلامية دستورها القرآن، وموقفهم المؤيد لسيادة الشعب والديمقراطية والانتخابات وغيرها من المفاهيم التي كان يُنظر إليها بحذر شديد.

يقول كول في هذا السياق: "إحدى نقاط الخلاف الضمنيّة لدى رجال الدين الشيعة تجاه خطر بريمر قد تمحورت بالصراع بين الرؤيتين العلمانية والدينية لحكومة العراق المستقبلية؛ كونها الأداة الضامنة في ترسيخ القيم الأصلية المتمثلة بالإسلام"، إذ "لم تشير خطة بريمر إلى مكانة الإسلام أو الشريعة  الإسلامية في الحكومة الجديدة، حيث زجَّ الأمريكيون والبريطانيون بأعضاء مجالس المحافظات والبلدية من ذوي الميول العلمانية نسبيًا فضلًا عن اعيان موالين للغرب".

الأمر الذي يُفسر بحسب كول ميل "رجل الدين الراديكالي الشاب مقتدى الصدر نحو نمط الانتخابات المرتكزة على قاعدة فرد واحد يساوي صوتًا واحدًا، واعتبر أن جميع الهيئات غير المنتخبة غير شرعية".

وفي موضع اخر من الكتاب يحاول كول جس النبض الحقيقي وراء هذا الموقف، والإصرار عند بعض رجال الدين بإقامة حكومة منتخبة بشكل مباشر من خلال الفترة الانتقالية إذ يشير إلى مقابلة أجرتها مجلة "دير شبيغل" DER SPIEGEL مع السيستاني حيث تساءل صاحب المقابلة الألماني "إذا ما أفضت الانتخابات إلى إنتاج طغيان الأغلبية الشيعية، اعترض السيستاني مجيبًا: كلا فإن الأغلبية العددية لو تحققت لطائفة ما فهي لا تؤدي إلى بروز أغلبية سياسية لهم، فإن من المتوقع أنَّ يكون في كل طائفة اتجاهات سياسية مختلفة.. وحيث أن أغلبية الشعب العراقي من المسلمين فمن المؤكد أنهم سيختارون نظامًا يحترم ثوابت الشريعة الإسلامية مع حماية حقوق الأقليات الدينية".

في عراق ما بعد 2003، أبدى رجال الدين العراقيين انفتاحًا متزايدًا تجاه فكرة السيادة الشعبية المعبر عنها بصندوق الاقتراع

وعلق كول على هذه الإجابة "إن شخصية السيستاني الروحية أغشتْ عينيه عن الحاجة في الحماية الدستورية والمؤسساتية للأقليات من جهة، وبين الطرق التي ستُطبق في ضوئها الشريعة الإسلامية، التي ستلحق الضرر بالمسيحيين، والصابئة، والعلمانيين.. وكان تحليل السيستاني للشخصية المتشظية التي اتصفت بها السياسة الشيعيّة وقدرة الأقليات على غرار الكُرد والعرب السُّنة في إظهار أصواتهم وبروزها قد أظهرت أنَّ ذلك الأمر غير دقيق في عام 2005؛ وذلك بفعل حصول التكتل الشيعي (الائتلاف العراقي الموحد) على غالبية المقاعد في البرلمان.. فقد نجمَ عن الانتخابات اللاحقة التي جرت في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2005 برلمانًا منقسمًا على نحوٍ عميق وأكثر تماثلًا لما توخاه السيستاني في جوابه لمجلة دير شبيغل".

اقرأ/ي أيضًا: النكتة السياسية في العراق.. صفعة على وجه الموت

وعلى الرغم من الشكوك التي يدسها كول بين سطور الكتاب وراء الدوافع الحقيقة لهذا التغيير في المواقف والإصرار على الانتخابات، وهذا الإيمان المتعطش بالعملية الديمقراطية من قبل رجال الدين، وهل تصرفهم كان انطلاقًا من دوافع فئوية وخاصة أم من منطلقات شعبية، أو وطنية حقة وعن إيمان عميق وراسخ بالعملية الديمقراطية والسيادة الشعبية، فإن كول في خاتمة الكتاب يؤكد على أنَّ هناك تطورًا ملحوظًا في الفكر الديني والتشريعي الشيعي المتعلق بالديمقراطية في عراق ما بعد 2003 يقول كول: "لقد ولدَ من رحم التاريخ العراقي وفكره وبقدر ما اتصل بردة الفعل إزاء الولايات المتحدة الأمريكية أو التعاون معها.. إنَّ النظام الدستوري والانتخابات المفتوحة والمساومة البرلمانية هي المفتاح للتفكير الجديد لدى رجال الدين الشيعة ويقتبس عبارة من أستاذ علم الاجتماع آصف بيات تقول "إنَّ تفكيرهم الديمقراطي هو مظهر من مظاهر مرحلة ما بعد الإسلاموية ومن المحتمل للغاية إنها بداية عصر التنوير الإسلامي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "دعوة إلى العقلانية".. التاريخ الفكري والروحي للفلسفة في العالم الإسلامي

كتاب "الفقيه والسلطان".. من حاجة إسلامية للعلمنة إلى فشل التحول الديمقراطي