18-أغسطس-2022
كتاب العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية

العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من "سلسلة دراسات التحول الديمقراطي" كتاب العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي في البلدان العربية، المجلد الثاني: التجربة التونسية، بمشاركة مجموعة مؤلفين، وهو من تحرير مهدي مبروك. يقع الكتاب في 680 صفحة ويشتمل على إرجاعات ببليوغرافية وفهرس عام.

يعدّ مسار العدالة الانتقالية ركنًا من أركان تجارب الانتقال الديمقراطي، حيث يساهم في صوغ ملامحه عدد من الفاعلين، مثل النخب والمجتمع المدني ووسائل الإعلام وضحايا الانتهاكات أيضًا

يعدّ مسار العدالة الانتقالية ركنًا من أركان تجارب الانتقال الديمقراطي، حيث يساهم في صوغ ملامحه عدد من الفاعلين، مثل النخب والمجتمع المدني ووسائل الإعلام وضحايا الانتهاكات أيضًا، ويسعى إلى ترسيخ أسس الانتقال الديمقراطي عبر عديد الآليات التي تهدف إلى تفكيك منظومة الاستبداد والقطع معها من أجل بناء نظام ديمقراطي لا تتكرر فيه تلك الانتهاكات. وعلى الرغم من نبل أهداف مسارات العدالة الانتقالية وما تقوم به من كشف للحقيقة خاصة، فإنها تواجه دائمًا بالاستنكار والرفض، ولو كان في فترات محدودة زمنيًا. ولفهم خصوصيات التجربة التونسية في هذا الشأن، خصص المركز العربي هذا المجلد الثاني لتحليل مسار تشكّل العدالة الانتقالية في تونس ودور مختلف الفاعلين ضمنه ومآلاتها التي ما زالت تثير العديد من الأسئلة.

يبحث هذا الكتاب الذي يتألف من اثني عشر فصلًا في المدونة القانونية الوطنية والدولية التي أطرت مقاربة العدالة الانتقالية ورسمت ملامحها، ويطمح إلى تحليلها، كما يهدف إلى تقويم أداء مهمات هيئة الحقيقة والكرامة، إضافة إلى تركيزه على دور المجتمع المدني والنخب ووسائل الإعلام وضحايا الانتهاكات في هذا المسار.

سياسات مكافحة الفساد في إطار العدالة الانتقالية في تونس

لم تشذّ العدالة الانتقالية المرتبطة بمكافحة الفساد عن الانطباع المبني على عدم نجاحها في تحقيق أهم أهدافها، غير أن ذلك يجب ألا يؤدي إلى إعلان الفشل النهائي لهذا المسار؛ نظرًا إلى تواصل مسار الانتقال الديمقراطي في تونس الذي يعتبر المجال الوحيد الممكن لتطهير الحياة العامة والحياة السياسية من الفساد.

يتيح ترسيخ التجربة الديمقراطية في تونس فرصة أخرى لمعالجة أفعال الفساد التي ارتُكبت قبل قيام الثورة، لكن يبقى النجاح في تحقيق هذه الغاية مرتبطًا بشرط جوهري يتمثل بإعادة قراءة الأسس النظرية التي تقوم عليها العدالة الانتقالية، على نحو يؤمّن المرور من سياق الحلول الثورية إلى سياق الحلول الإصلاحية. من البدهي أن تقدم الدولة والمجتمع في سياق العدالة الانتقالية مجموعةً من الحلول النسبية والمتناسبة مع منطق العدالة الانتقالية باعتبارها مختلفة عن العدالة التقليدية أو "الشكلية"، مثل تغليب العفو والمُضيّ في المصالحة، في مقابل تحقيق مكاسب مستقبلية متعددة، مثل استرجاع بعض الأموال المنهوبة والمضيّ في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، خاصةً تأمين الانتقال نحو الديمقراطية.

كان لزامًا على الدولة أن تسعى لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية، من كشف حقائق ومحاسبة ومصالحة، وهو ما لم يحصل؛ ولذلك تأرجحت العدالة الانتقالية المتصلة بالفساد بين متطلّبات العدالة الانتقالية المرنة ومتطلّبات العدالة الشكلية الصارمة، خصوصًا في ما يتعلق بالمصالحة الاقتصادية التي تعتبر روح العدالة الانتقالية. وساهم عدم إنجاز المصالحة الاقتصادية في استمرار تداول حجم من الأموال في الحياة العامة مصدرها الفساد؛ فبقاء رجال الأعمال المتورطين في الفساد تحت طائلة الابتزاز السياسي يدفعهم إلى البحث عن الحماية والحصانة من طريق تمويل السياسيين الذين يحققون لهم تلك الغاية.

بناءً على ما سبق، يمكن تأكيد أن إعادة إطلاق جهود المصالحة الاقتصادية أضحت اليوم ضرورة لتطهير الحياة السياسية من المال الفاسد؛ ما من شأنه أن يدعم مسار الانتقال الديمقراطي. ويتطلب ذلك استكمال مسار العدالة الانتقالية على نحو مطابق لقواعد قانون العدالة الانتقالية ومبادئ الدستور، وبطريقة تُحيّد الاعتبارات السياسية الظرفية.

في مقابل ذلك، تبرز أهمية الدولة الديمقراطية في كونها الإطار الأنسب لإيجاد بيئة طاردة للفساد؛ فهذه الدولة ليست خالية من الفساد، لكن ترسّخ الآليات الديمقراطية الإجرائية واتساع نطاق الحريات والفصل الواضح بين السلطات، تُعتبر عناصر تضمن المساءلة والمحاسبة وتساعد في المحاصرة الناجعة للفساد. وعلى النقيض من ذلك، يؤدي الاستبداد وغياب الديمقراطية إلى التغييرات العنيفة التي لا تضمن انتقالًا ديمقراطيًا ولا مكافحة فساد.

العدالة الانتقالية: المجتمع المدني والنخب

لئن وجدت هيئة الحقيقة والكرامة دعمًا من فاعلين خارجيين وأحزاب ومنظمات ذات توجهات أو ميول إسلامية في الأساس، فإن طيف اليسار بأحزابه ونخبه ومنظماته الحقوقية والجمعياتية وجد نفسه في مأزق؛ إذ بتصنيفه سهام بن سدرين (رئيسة الهيئة) متواطئةً مع الإسلاميين والسلفيين، أوقع نفسه وتابعيه في خلطين: الأول أنه أرجع مسألة العدالة الانتقالية إلى بوتقة الصراع الأيديولوجي، مغفلًا بذلك أولويات المرحلة الانتقالية؛ والثاني اختزل منظومة العدالة الانتقالية في شخص رئيستها حتى استحالت هيئة الحقيقة والكرامة هيئة بن سدرين، وبناءً عليه هيئة تابعة للإسلاميين. أما جماعة النظام السابق فوجدوا لهم عزاء في موقف اليسار، وأضافوا إليه تلفيقات البوليس السياسي ضد بن سدرين، كي يشككوا في منظومة العدالة الانتقالية برمّتها التي تقودها "عميلة الصهيونية" و"مندسّة النهضة والمتطرفين"، بحسب زعمهم وتصريحاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

تأرجحت العدالة الانتقالية المتصلة بالفساد بين متطلّبات العدالة الانتقالية المرنة ومتطلّبات العدالة الشكلية الصارمة، خصوصًا في ما يتعلق بالمصالحة الاقتصادية التي تعتبر روح العدالة الانتقالية

ويُعدّ تطبيق العدالة الانتقالية أحد أهم جوانب التحول الديمقراطي في تونس؛ إذ أكد الدستور التونسي (27 كانون الثاني/ يناير 2014) أهمية هذه الآلية في المادة 148، النقطة 9 التي تنص على "أن الدولة تتعهد بتنفيذ نظام العدالة الانتقالية". وجرى إقرار هذا النظام، بالفعل، في القانون الأساسي عدد 53/ 2013، في ما يتعلق بإسناد العدالة الانتقالية في تونس وتنظيمها. وينص هذا القانون على إنشاء لجنة تسمى "هيئة الحقيقة والكرامة". إضافة إلى انتهاكات حقوق الإنسان، يمتد اختصاص الهيئة أيضًا إلى انتهاكات تتعلق بتزوير الانتخابات والفساد المالي واختلاس الأموال العامة. إن هذا الاختصاص المسند إلى الهيئة مفهوم باعتبار الترابط الوثيق بين نظام الدكتاتورية والجريمة المالية. فيكفي في هذا المجال الرجوع إلى تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة للوقوف على مدى تحصّن شبكات الفساد والجرائم المالية بالنظام السياسي القائم آنذاك، علاوة على ضلوع عدد غير قليل من كبار المسؤولين في الدولة في جرائم ضد المال العام. وعادة ما ترافق تجاوزات هذه البطانة الفاسدة كلها اعتداءات على حقوق الغير، من دون أن يجد المعتدى عليهم سبيلًا لإعلاء أصواتهم والمطالبة بحقوقهم.

إن التجربة التونسية لم تشذّ عن عدد من تجارب الانتقال الديمقراطي التي تكون ميزتها الأساسية ذلك الصراع بين مساند ومنتقد ومعترض. وتؤكد أيضًا أن أول أهداف عودة النظام السابق، قبل استكمال مسار العدالة الانتقالية، إيقاف المسار وإرباكه. تتميز التجربة التونسية، على هناتها، مع القانون الأساسي عدد 53/ 2013 بأنها طبّقت المنظومة الشاملة للعدالة الانتقالية القائمة على كشف الحقيقة وتحديد المسؤوليات وجبر الضرر للضحايا وإصلاح المؤسسات. ويُقرّ المهتمون بمسألة العدالة الانتقالية بأن هذا النموذج يبقى من أكثر النماذج صعوبة وتعقيدًا، ولذلك يكون عرضة لانتقادات جمّة، ومن مختلف الأطراف، إلا أنه يبقى الأفضل لتحقيق المصالحة الشاملة، وهو ما لم يتحقق في التجارب المقارنة التي اعتمدت نماذج مختلفة. ومهما يكن من أمر، فإن نجاح نموذج أو فشل آخر يبقى رهين استراتيجيات الفاعلين والموارد التي بحوزتهم، وسرعة التكيف مع إكراهات السياق. ولذلك سيبقى الصراع بين من يؤمنون بفكرة النظام الديمقراطي ومن يحنّون إلى استرجاع الأنظمة المتسلطة، مفتاح نجاح تجارب التحول الديمقراطي في العالم.

التقييم والنظرة إلى المستقبل

شرعت هيئة الحقيقة والكرامة في تسليم أرشيفها إلى مؤسسة الأرشيف الوطني في 9 أيار/ مايو 2019، تحت إشراف رئاسة الحكومة، بعد أن سلّمت تقريرها الختامي إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب ورئاسة الحكومة.

تجدر الملاحظة أن كثرة الصراعات داخل الهيئة وكثرة صداماتها مع مؤسسات الدولة ونقص الكفاءة القانونية على مستوى مجلسها، عوامل أسهمت في تنمية هذه الإشكالات كلها، وجعلت التقييمات المقرّة بفشل الهيئة طاغية على التقييمات المساندة لها، لكن على الرغم من كل ما ذُكر، فإنه وجب تثمين ما وقع إنجازه عبر التعريف بالتقرير الختامي للهيئة والدفع من أجل تنفيذ التوصيات المدرجة فيه لترسيخ المسار الديمقراطي وتكريس منظومة حقوق الإنسان في مجتمع ديمقراطي، حيث إن بعض الاتجاهات الحديثة أضحى يطالب باستكمال المسار أو استئنافه، ولعل أغلبية هذه الأصوات مكوّنة من الضحايا، وهم أول المعنيين بمسار العدالة الانتقالية.

يجب ألّا يكون هذا الاتجاه في منأى عمّا حققته الهيئة من رصيد على مستوى قاعدة البيانات والشهادات المسجلة، بغض النظر عن جودتها النوعية، وكذلك على مستوى الشهادات العلنية، وما أرسته من ثقافة المصارحة ومواجهة أهوال الماضي، بما تحمله من عذابات وأوجاع وآلام، إلا أنه لا يمكن أن تحتكر هيئة الحقيقة والكرامة، أو غيرها حتى وإن كانوا مجموعة الضحايا، مسار العدالة الانتقالية؛ فالعدالة الانتقالية ملك للمجتمع التونسي أساسًا، ومن خلاله المجتمع الكوني المؤمن بحقوق الإنسان وكرامته ووضعها فوق كل اعتبار، فمطالب العدالة الانتقالية هي مطالب مجتمعية عامة وليست مطالب فئوية، وإن لم تنجح الهيئة في تحقيق هذه المطالب، مثل كشف كامل الحقيقة وتأكيدها عبر مساءلة المسؤولين عنها ومحاسبتهم، لنتمكن من تحقيق مصالحة وطنية شاملة بين أبناء شعبنا، بانتماءاتهم وتوجهاتهم المختلفة، ليتمكن شبابنا وأطفالنا من حفظ صورة مشرفة عن أسلافه المناضلين والضحايا، تجعل من مجتمعنا نسيجًا موحدًا يملك ذاكرة جماعية متجانسة لا يرقى إليها الشك أو الدحض.

وإنّ أيّ استئناف لمسار العدالة الانتقالية أو استكماله يجب أن يكون قوامه الاعتداد بمنجزات هيئة الحقيقة والكرامة والاتعاظ من أخطائها، ولا بد أن يكون الجهاز الذي سيشرف على هذا المرفق فوق مستوى الشبهات ويتمتع بالكفاءة، وله ما يكفي من الخبرة والتجربة العلمية والعملية ومشهودًا له بالتعالي عن التجاذبات وبولائه للوطن وللقانون. ويمكن كذلك أن تتخذ العدالة الانتقالية منهجًا آخر بأن تتعهد الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية بالملفات محل عهدة هيئة الحقيقة والكرامة، على الأقل في ما يتعلق بمحاسبة المسؤولين الذين لم يقبلوا بالانضواء تحت لواء العدالة الانتقالية في نسختها القديمة، ومساءلتهم عن الانتهاكات الجسيمة.

إن الخيارات متعددة حول مستقبل العدالة الانتقالية، وهو ما يفرض ضرورة الحوار وإبقاء الهمم مستيقظة والإيمان راسخًا بالعدالة الانتقالية بديلًا حضاريًا من عدالة الانتقام والتشفّي، وهو ما يفرض التفاف الجميع، بمن في ذلك من ساهم في المسار سلبيًا أو إيجابيًا حتى تُتاح الفرصة لتنقية المناخ وبناء أعمدة الثقة والتسامح والعدل ليكون القانون رافعة للفصل الأخير من فصول العدالة الانتقالية في تونس.