21-مارس-2022
الشّاعر باسل الأمين

الشّاعر باسل الأمين

لحظاتٌ سريعةٌ تلشي تصفّح كتاب "أحياء من الكرنتينا" (من إصدار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) للشّاعر اللّبنانيّ باسل الأمين، حتّى تتبادر إلى ذهنك مقولة سيوران: "رعاة جبال الكاربات أحدثوا فيّ انطباعًا أكبر بكثيرٍ من الأساتذة الألمان أوْ المراوغين الباريسيّين، في إسبانيا رأيت متشرّدين رغبت أنْ أكتب سيرهمْ كقدّيسين".

اخترع باسل الأمين في كتابه "أحياء من الكرنتينا" شخصًا معنيًّا بصيانة النّوافذ لأداء وظيفة الاستماع إلى جميع القصص المذكورة في الكتاب

والمفارقة أنّ الكتاب، وهو الإصدار الثّالث في مسيرة الأمين الأدبيّة، ليس إصدارًا شعريًّا إنّما يمكن تصْنيفه، وبحذرٍ، في باب الكتابة التّوثيقيّة. يأخذ باسل الأمين على عاتقه نقل أوجاع المتضرّرين منْ كارثة انفجار مرفأ بيروت في منطقة الكرنتينا البيروتيّة والمتاخمة تمامًا لمرفأ بيروت. مهمّةٌ صعبةٌ تكاد تكون انتحاريّة لما فيها منْ معاناةٍ، ولما تتطلّب منْ جهودٍ في ضبط النّفس والتّحمّل ومقاساة آلام أناسٍ بسطاء وموجوعين، وقبل ذلك، منسيّين ومهمشين حتى قبل انفجار المرفأ.

استهلّ المشروع بورشات استماعٍ للأفراد والعائلات المتضرّرة في المنطقة المستهدفة، وكان الهدف منْ سماعها هو إعادة تمثيلها على المسْرح في مراحل لاحقة، بطريقةٍ ما يشْعر المتضرّر أنّ معاناته صارتْ خارجه، حملها عنْه شخْصٌ غيره، ولوْ شئنا استوْدعها شخْصًا غير نفْسه.

الموضوع بحدّ ذاته ملتبسٌ ومحيّر. ويمْكننا أنْ نجزم أنّ باسل الأمين، لمْ يعرفْ منْ أين سيبدأ. من المعروف أنّه من السّهل أنْ تسمع. ولكنْ هلْ سهْلٌ أنْ تكتب؟ في كلّ لحظةٍ يجد الكاتب نفسه أمام سؤالٍ يطارده ويتعقّبه، أين أنا منْ كلّ هذه المعمعة. وما هو دوْري بالضّبط في هذه المشْهديّة؟

أحياء

اخترع الأمين في "أحياء من الكرنتينا" شخصًا معنيًّا بصيانة النّوافذ لأداء وظيفة الاستماع إلى جميع القصص المذكورة في الكتاب. فكرةٌ جيّدةٌ أنْ يقوم شخصٌ ما، ولو من المخيّلة بترميم نوافذ تلك المنطقة وجمع الزّجاج المحطّم جرّاء الانفجار منْ أجل إعادة صهْره في الفرن على شكل ألواحٍ زجاجيّة جديدة. ولعلّ هنا يكمن دور الكاتب، أي في تجميع المكسور والهشّ وإعادة تجميعه بحيث يصبح واضحًا وجليًّا للعيان.

العربي-التلفزيون

الشّكل الظّاهر للمؤلّف أشبه بكتب الأطفال، كتب القصّ والتّعليم. إلّا أنّ الأمين يأخذ هذا النّوع من الكتابة إلى حيّز مغاير. مرحلة تجريب ورغبة بصناعة شيء جديد. رحلةٌ في البحث عنْ قصص هؤلاء الّذين لا يعرف النّاس قصصهم، والمشترك فيما بينهم أنّهم قابعون في تلك المعاناة، يعيشون في بيوتٍ ليست بالبيوت. عماراتٌ هشّة كأحجار الدّومينو، تحتضن بين جنباتها أشخاصًا ملؤهم الهشاشة والضّعف، أشبه بحيطان وجدران متروكة للّريح العاصفة.

النّاظر إلى الصّور والرّسومات المرافقة، لا يرى سوى الشّخص نفسه، يتلو قصّة واحدة، بملامح لا يمكن أبدًا أنْ تكون ملكًا لشخصين أو حتّى ملكًا لتوأم. وجوههم مرآة لبعضهم البعض، نفس الضّحكة وذات الضوء البارق في العيون، الثياب المتناسقة.

في "أحياء من الكرنتينا" لا نرى إلّا شخصًا واحدًا، يعيش معاناة واحدة، لكنّه يموت مليون ميتة في اليوم. أوليست المعاناة فعلًا جماعيًّا؟ أوليست الكتابة التوثيقيّة ذاكرةً للمكان وتاريخًا له وشاهدةً عليه؟

يرمّم باسل الأمين في "أحياء من الكرنتينا"، شيئًا من القصص المبعثرة يسردها من الواقع ومن الجرح بلا أيّ اعتدادٍ بالتّوليفة أو الحبكة

المعاناة دائمًا ما تجعل الأشخاص يفكّرون وكأنّهم أكبر من عمرهم. هؤلاء أشخاص فقدوا مراحل من أعمارهم، كبروا قبل أوانهم، اقتطعوا من حيواتهم قطعًا ووهبوها للعدم. يتمترسون هناك طوال حياتهم. لا يفعلون شيئًا غير محاولة المضيّ قدمًا، بالرّغم من سلطة التّاريخ عليهم، ومن الثّكنات العسكريّة والمدافن الجماعيّة والمصير المجهول الّذي يصبّ في حاضر أيّامهم.

يرمّم الأمين في "أحياء من الكرنتينا"، شيئًا من القصص المبعثرة يسردها من الواقع ومن الجرح بلا أيّ اعتدادٍ بالتّوليفة أو الحبكة. كتابةٌ توثيقيّةٌ شبه مجانيّة، ليست سوى تلك الأشياء الفقيرة والهزيلة للأشياء الرّائعة والجميلة في دواخلنا.