09-يونيو-2022
غرافيتي في بيروت

غرافيتي في بيروت

أن يعاصر المرء حدثًا ما لا يعني بالضرورة تواجده في مكان حدوثه لحظة وقوعه. فطول المسافة بينه وبين الحدث لن تجنبه تبعاته والأزمات التي واجهت من عاصروه وجاوروه. هل تصبح تلك المسافة التي أبعدته فغيبته عن الحدث أزمة إضافية؟ هل ينجو من الغرق من لم ينزل في البحر أصلًا؟

لا بد من وجود اسم لهذه المتلازمة.

متلازمة تتشابك عوارضها بين الندم والذنب وتكرار محاولات مستمرة لمحاكاة الحدث والألم المتنقل بين ضفتي الـ"هنا" والـ"هناك". حيث يفصلك عن الـ"هنا" ضباب لا يعكس طزاجة ما يختلج فيك. عندما تنظر يُرى الـ"هنا" بالأبيض والأسود، ولكن الشعور بالـ"هنا" به ملون وله رائحة وطعم. 

أن يعاصر المرء حدثًا ما لا يعني بالضرورة تواجده في مكان حدوثه لحظة وقوعه. فطول المسافة بينه وبين الحدث لن تجنبه تبعاته والأزمات التي واجهت من عاصروه وجاوروه

الزمن واحد، عكس الجغرافيا. والألم يتمزق بينهما آخذًا هيئة عجز وغربة.

في 14 شباط/فبراير 2005 لم أكن هنا. وصوت الانفجار لم يهزني، ولكن خبره هزني وأنا أتناول وجبة غداء في أحد فروع مطعم تشيليز في دبي. لم أشارك في المظاهرات التي تلت الاغتيال والتي شكلت فريقي 8 و14 آذار، ولم أختبر ولادة هذا الانقسام الحاد بين الآذاريين. ولم أفهم لاحقًا الحنين إلى تلك الأوقات التي شهدت اجتماع حشود هائلة غاضبة ومتألمة وصارخة. وجهي ليس ضمن وجوه صورها التي لا تزال محفوظة في كاميرات الكثيرين وشاشاتهم، ولا لغة أو مفردات سرية أحفظها أو أفهمها من تلك المرحلة.

ولم أكن هنا عندما انسحب الجيش السوري من لبنان في العام نفسه، ولم أرقص وأرفع كأسًا مع الأصحاب احتفالًا بهذا الانسحاب.

لم أشم رائحة الموت في ضاحية بيروت الجنوبية حيث كان يقع بيتنا، حين قامت حرب تموز 2006، لأنني أيضًا لم أكن "هنا". كنت لا أزال في دبي. لم أسمع صوت الطيران في سماء بلدتي ولم تفرغ ثلاجتي من الطعام، ولم أضطر لتشارك البطيخة الوحيدة المتوفرة في الحي، مع الجيران. لم أساعد المنكوبين في حديقة الصنائع. طبعت تيشرتات وبعتها، وجمعت مالًا وأرسلت مساعدات عينية، ساعدت بتنظيم مغادرة ركاب طائرة كاملة من لبنان إلى دبي، مرورًا بسوريا. لكني لم أكن هنا. لم يقُصف جسر أثناء مروري عليه، ولم أشاهد البناية المقابلة لبنايتنا تهبط، ولم أسمع أصوات الانفجارات الجديدة التي لا تشبه تلك التي اختبرناها في الحروب السابقة.  

حتى أنني لم أكن هنا يوم واقعة القمصان السود في 7 أيار/مايو عام 2008. وفي كل مرة ألتقي بأصدقاء عاشوا تلك الواقعة أحاول التأكد إن كانت قد حدثت فعلًا رغمًا عن غيابي.

وأين تظنونني كنت عندما اندلعت أحداث "الثورة" في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019؟ أبدًا لم أكن هنا. من الـ"هناك" غامرت بتصديقها وقبلت طوعًا أن أكون ساذجة وأتخلى عن حذري ودفاعاتي. تسمرت خلف الشاشات بكل أشكالها وأحجامها. قبلت طلبات كل من طلب صداقتي ولم أتوقف عن الابتسام والغيرة. نقلت أخبار "الثورة" من خلال صفحة أنشأتها خصيصيًا لهذا الغرض. لكنني عندما سالت دموع الأصحاب تأثرًا بالغاز المسيل، وعندما فقد بعضهم عينًا، وكتب آخرون على الجدران، وأقفلوا الساحات، واختلطت ضحكاتهم بدموعهم وعرقهم، وعندما ركضت أختي بحثًا عن أخي، وعندما هتفوا "الهيلا هو" لم أكن هنا. تأخرت على الثورة  وحين "زرت" الثورة في ميادينها، تعرف علي الثائرون ولم يطلبوا مني إثبات هوية وانتماء. لكنني لم أكف عن الشعور بأنني زائرة وأن مشاركتي في هذه الثورة لا تختلف عن مشاركة سائحة في حدث صودف تواجدها في مداره. كنت أحاول أن أثبت لنفسي أنني هنا، وأنني انتمي إلى الساحات مثلهم.

عندما ارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة، لم أكن هنا. لم أقف مذهولة بفم مفتوح، ضائعة في احتساب ثمن قنينة الشامبو، وأنا أحول من ليرة إلى دولار بحسب سعر اليوم مقارنة بما كان عليه سعر البارحة!

عندما اجتاحت جائحة كورونا الكوكب، لم أكن هنا. كنت وحدي تمامًا في عزلة سبقت العزل. وعندما انقطع البنزين لم أنتظر في الطوابير ولم أشتر غالونات لتخزينه.

عندما تم تفجير بيروت ومرفأها وناسها وسكانها لم أكن هنا. ولم أسمع الصوت ولم تتهشم عظامي ولا عظام أحد فوقي. لم أخسر سيارتي ولا بيتي ولم يتمزق فستاني أو تخدش ساقي حتى. لم أر الدماء ولم أشم رائحتها، ولم أهيم في الشوارع بحثًا عن صوت مستغيث، لم أشاهد النيران وغيوم الدخان، لم أنصب خيمة لتوزيع المساعدات العينية ولم أكنس شارعًا ولم أشارك في ترميم بيت. ولم أستيقظ في الليل بسبب عوارض ما بعد الصدمة.

وعندما مرض وذبل ثم غادر صديقي جبور الدويهي لم أكن هنا.

من أنا دون كل تلك الذاكرة الطازجة؟ دون تلك النظرة الهائمة التي يتشاركها الأصدقاء؟ من أنا بذاكرة ناقصة؟

 

لم أكن هنا عندما بكى الأصحاب، وعندما فرحوا وغنوا، وعندما احتفلوا وصرخوا وخافوا، كنت هناك أغذي حقدي وخيبتي وأتعلم الشتم وأعتنق مذهب خدش الحياء العام.

لأي ذاكرة أنتمي وأنا خارج الجغرافيا والذاكرة والتاريخ. هذا المكان، هذا الـ"هنا" سلبني حتى حقي بالاحتفاظ بذاكرة الجماعية.

من أنا دون كل تلك الذاكرة الطازجة؟ دون تلك النظرة الهائمة التي يتشاركها الأصدقاء؟ من أنا بذاكرة ناقصة؟

كيف أنتمي بذاكرة فردية، لا يعرف عنها من هم "هنا" الكثير؟  ثم، كيف أنضم لذاكرتهم وأنا أعيش كل أحداثهم "هناك"؟