18-نوفمبر-2015

غرافيتي في القاهرة

تحظى الأخبار ذات الطابع الجنسيّ عادة باهتمام كبير من جمهور قد لا تعني له القراءة في الأحوال الطبيعية شيئًا. هذا الاهتمام قد يشير إلى مدى الرزوح تحت كبت جنسي شديد، يملؤه أصحابه بمتابعة كل ما يصدر من تفنينات وتقليعات في عالم البورنو، مشكلين بذلك فرائس سهلة لتجار الجنس الإلكتروني والمرئي. 

نشرت إحدى الصحف الفنلندية تقريرًا يشير إلى رغبة السلطات هناك بالبدء بمحاضرات تثقيفية جنسية لطالبي اللجوء

تختفي نتائج هذا الكبت وتذوب في المجتمعات المحافظة عادة، لتظهر على شكل قهر أسري أحيانًا، أو فشل مهني وإحباطات يعاني منها الأفراد وتنعكس نتائجها على المجتمع كليًا، وغالبًا ما يكون الحل الأسهل المتاح هو الذهاب في طريق الانحلال الأخلاقي أو في طريق التطرف الديني القاسي، الذي لا يجد من الأنظمة الديكتاتورية عادة أي رفض. غير أن مفرزات هذا الكبت قد تولد سلوكيات تتصف بقلة الأدب تارة، وبالعدوانية تارة أخرى، في مجتمعات لا يعتبر فيها الجنس تابوهًا من التابوهات المحرمة، وهكذا فقد باتت هذه المفرزات مقلقة لبعض الدول الأوروبية التي يفد لها لاجئون جدد، لم يعتادوا على رؤية السيقان العارية تتنقّل بحرية بين المولات والمحلات التجارية دون أن تعاني من ظاهرة التحرش المفرطة سابقًا.

في تنظيره، يشرح فرويد معيارين أساسيين يتحكمان في الأنا الفردية أي بشخصية المرء، المعيار الأول هو "الأنا الهو"، والمعيار الثاني هو "الأنا الأعلى"، ويوضح أن الأنا الأعلى هي شخصية الإنسان في صورتها الأكثر عقلانية وتحفظًا، أي أنها الأنا التي تنقاد وراء القيم الأخلاقية والمبادئ المثلى بعيدًا عن الغرائز والشهوات لتجسد الضمير، وهي تعارض قطعًا "الأنا الهو" التي تقف على النقيض، وهكذا نجد أن الأنا الأولى تناشد عالمًا مثاليًا في حين أن الأنا الثانية ترزح تحت إغراءات الواقع، وكلما استطاع المرء أن يوازن بين هذين المعيارين عاش متوافقًا.

لا يخفى على أحد أن الغالبية الأعم من جمهورنا العربي، تعتبر أن الجنس المفتوح نعمة يختص بها الله عباده المطيعين في الجنة، وأنه، أي الجنس، مقيّد بتعاليم وتقاليد دينية وعرفية صارمة في الدنيا، وبعيدًا عن مهاترات قد تطالعنا كثيرًا، وقد ألفناها في مجتمعاتنا، بين من يقول أن حرية المرأة منتقصة جنسيًا في الدنيا والآخرة، وبأن العادات القديمة قد رمت بثقلها لصالح الذكر، مبيحة له ما لم يبح لشريكته حواء، إلا أن الأمر حاليًا قد خرج من النطاق الضيق في مجتمعاتنا، ليصبح مثارًا للاهتمام في الحلقة الأوسع "عرب- غرب"، في أوروبا بشكل خاص. طالعتنا شهادات عديدة من مواطنات أوروبيات بعضهن يتخوف كنتيجة للدعاية القوية الإعلامية ضد اللاجئين عمومًا، وبعضهن اشتكى بالفعل من تحرشات تعرضن لها هن أو بناتهن. 

مؤخرًا نشرت إحدى الصحف الفنلندية تقريرًا يشير إلى رغبة السلطات الفنلندية بالبدء بمحاضرات تثقيفية جنسية لطالبي اللجوء، الهدف منها هو رتق الفتق بين الحضارتين وتدريب القادمين الجدد على أسلوب التعامل مع المرأة والجنس في المجتمعات الغربية، فعلى سبيل المثال، لبس المرأة لملابس فاضحة لايعني التحرش بها. كما تهدف المحاضرات إلى توضيح الفرق بين الافلام الإباحية والممارسات الجنسية من ناحية، وبين القوانين المختصة بالجنس والتوعية به من ناحية ثانية، وتسعى لنشر مفهوم المساواة بين الجنسين، وللتوعية بالحقوق الممنوحة للمثليين جنسيًا.

شخصية دون جوان المتهتك لم تعد لها سطوة أمام عالم لا يتميز به المرء سوى بعلمه وعمله

تراوحت تعليقات المعلقين بين السخرية من هذه الحلول والهزء بها أو الإشادة والمديح والمطالبة بطرد المتحرشين، أو بين شتم الغرب واتهامه بتصدير العهر إلى العالم، أو شتم المجتمعات العربية التي لا يهتم أفرادها سوى بالوصول إلى المتعة الجنسية.

عمومًا يبدو أن الكثيرين قد اكتشفوا بأن الأمور ليست شوربة، كما كانت تحكي الصورة النمطية عن الغرب، وأن الفتاة الغربية عمومًا فتاة عملية لن تفلح قصة شعر إنجليزية باجتذابها إلى السرير، ولا العطور التي ترمي بالفاتنات أرضًا كما في الدعايات التلفزيونية، ولا حتى نفخ العضلات الأمامية والخلفية.

كما أنّ شخصية دون جوان المتهتك الذي اخترعه أحد القساوسة ليفضح تهتك أمثاله، لم تعد لها سطوة أمام عالم لا يتميز به المرء سوى بعلمه وعمله، فبقيت الشخصية أمام التمثال الحجريّ لتناجيه في ختام القصة حتى يقودها فعلًا نحو الجحيم، الذي لا نتمناه لأنفسنا. كذلك فشلت كل المحاولات في محاكاة شخصية كازانوفا الحقيقي، بوضع وردة حمراء في جيب الجاكيت الأسود العلوي، وباكيت حمراء طويلة مع الجهاز الخليوي الثمين الممتلئ بصور "السكس" ومسجات التحرش بفتيات العالم الافتراضي، في اليد اليمنى. لأن كازنوافا الذي أغوى مائة وعشرين فتاة من مختلف البلدان، كان شاعرًا وكاتبًا مسرحيًا ومتفوقًا في دراسته حيث حصل على دراسة عالية في القانون وشؤون الحروب الأهلية، وهو دون الثامنة عشرة من عمره، وسيرته تدل بوضوح على نبوغ في قدراته على الجدل والحوار.

ما يبدو جليًا، أن أغلب الوافدين الجدد إلى أوروبا قد عانوا فعلًا من صدمة الفارق الحضاري، فبعد أن انتهى من شتم الغربة، بدأ في التغزل بنعيم الغرب وعظمته، ثم نكص أعقابه نحو الركون لكانتونات صغيرة مع مواطنيه، مؤثرين الانزواء بعيدًا عن الانصهار الفعلي في مجتمعات تتصف بالانحلال الأخلاقي من وجهة نظرهم، لأنها لا تحرم ما يحرمون. هذا بالطبع لا يتخذ صفة المطلق ولا ينفي بروز حالات استطاعت التوفيق بنجاح منقطع النظير بين متطلبات الأصول ومستجدات الواقع، لتحتفي بها النفوس والصحف أيضًا، لكنها تبقى حالات. 

تبدو المفارقة كبيرة والتناقض على أشده، حين نعلم أن أعلى نسب التحرش ليست في هذه المجتمعات الغربية، بل في أوطان عديدة يدعي مواطنوها بأنهم "على خلق"، كما قال "خليفة خلف الله خلف خلاف المحامي" في مسرحية عادل إمام الشهيرة "شاهد ما شافش حاجة".

اقرأ/ي أيضًا:

هجرة القلوب إلى النمسا

حلول خاطئة لمعادلات الثقافة