في لحظة فارقة من تاريخ تونس المعاصر، تترسخ ملامح عودة الاستبداد بكل قوة، بعد أكثر من عقد على ثورة الحرية والكرامة التي كانت شرارة الربيع العربي.
اليوم، تعيش تونس واحدة من أحلك فصولها السياسية، مع تصاعد حملة قمع غير مسبوقة يقودها الرئيس قيس سعيّد، حوّلت البلاد إلى ساحة لمحاكمات صورية، وأحكام قاسية، وقمع شامل يستهدف كل صوت معارض.
ففي محاكمة وُصفت بأنها "جنون قضائي"، أصدرت محكمة تونسية مؤخرًا أحكامًا وصلت إلى 66 عامًا من السجن بحق معارضين سياسيين بارزين ومدنيين، في ظل انتهاكات فادحة لحقوق المتهمين والمحاكمات العادلة.
وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، تزامن هذا التصعيد مع أزمة اقتصادية خانقة، وتفكيك منهجي لما تبقى من المجتمع المدني، في مشهد يعيد إلى الأذهان أجواء القمع والمحاكمات السياسية التي عرفتها تونس في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ولكن بوجوه جديدة وأدوات أكثر سطوة.
تعيش تونس واحدة من أحلك فصولها السياسية، مع تصاعد حملة قمع غير مسبوقة يقودها الرئيس قيس سعيّد، حوّلت البلاد إلى ساحة لمحاكمات صورية، وأحكام قاسية، وقمع شامل يستهدف كل صوت معارض
وترصد الصحيفة الفرنسية التحولات العميقة التي تعرفها تونس تحت حكم قيس سعيّد، وتكشف كيف انتقلت البلاد من نموذج ديمقراطي واعد إلى نظام سلطوي هش يختبئ خلف الشعارات الشعبوية، فيما يلوح في الأفق خطر انفجار اجتماعي محتوم إذا استمر المسار الحالي.
محاكمات صورية وأحكام قاسية
في 19 نيسان/أبريل، أصدرت محكمة مختصة في "قضايا الإرهاب" بالعاصمة تونس أحكامًا بالسجن طالت أكثر من أربعين معارضًا سياسيًا ومدنيًا، فيما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، وهي الأحكام التي وصفها حقوقيون بأنها "مهزلة قضائية".
أحكام سجنية تتراوح بين 13 و66 عامًا في حق المتهمين في قضية "التآمر"، وفق المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب#تونس #Tunisia pic.twitter.com/fIZPG4Ctz5
— Ultra Tunisia الترا تونس (@ultra_tunisia) April 19, 2025
بحسب منظمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، فقد جرى حرمان المعتقلين من أبسط حقوق الدفاع، حيث حوكموا عبر جلسات عن بُعد من زنازينهم، في انتهاك صارخ للأصول القانونية.
تحذيرات دولية خجولة
لم تلبث العواصم الأوروبية، التي لطالما تساهلت مع قيس سعيّد بسبب تعاونه الأمني فيما يتعلق بقضايا الهجرة، وعبرت أخيرًا عن قلقها. فقد أصدرت باريس وبرلين بيانات نادرة تعرب عن "القلق العميق" من تدهور حالة حقوق الإنسان في تونس، وهو تحذير متأخر ولكنه لافت. بحسب الصحيفة الفرنسية
تفكيك منهجي للمجتمع المدني والمعارضة
تسلّط صحيفة "لوموند" الضوء على أن الحملة القمعية لا تستهدف الأحزاب السياسية فحسب، بل تضرب أيضًا كل أشكال التعبير المدني الحر. فقد وجدت رموز بارزة، مثل المحامية والناشطة النسوية بشرى بالحاج حميدة، والباحث السياسي حمزة المدّب، أنفسهم ملاحقين بأحكام غيابية قاسية وصلت إلى 33 عامًا، ضمن ما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة"، ما اضطرهم للجوء إلى المنفى في فرنسا.
أما السياسي البارز خيام التركي، الذي سعى لتوحيد صفوف المعارضة، فقد حُكم عليه بالسجن 48 عامًا، بعد أكثر من عام على اعتقاله.كما طالت الأحكام عشرات السياسيين والصحافيين ورجال الأعمال، أبرزهم رجل الأعمال كمال الطيف، الذي صدر بحقه حكم بالسجن 66 عامًا.
أساتذة قانون: "الأحكام صدرت في قضية "التآمر" دون مراعاة أصول القانون الجزائي والمبادئ الأساسية للإجراءات وشروط المحاكمة العادلة وهي أحكام أقرب إلى قضاء التعليمات منه إلى حكم قضائي.."
معطيات أوفر👇#تونس #Tunisiahttps://t.co/YHFkj0NZLN pic.twitter.com/m9YE93mqHm— Ultra Tunisia الترا تونس (@ultra_tunisia) April 22, 2025
ورغم أن النيابة العامة رسمت صورة لـ"مؤامرة كبرى" في محاولة لتبرير حملة القمع وترويع الرأي العام، فإن الواقع، بحسب صحيفة "لوموند"، يؤكد أن معظم المتهمين لا تربطهم أي صلة ببعضهم البعض.
من الأمل إلى الكابوس: مسار قيس سعيّد نحو الحكم المطلق
عندما انتُخب قيس سعيّد رئيسًا لتونس في تشرين الأول/أكتوبر 2019، كان يحمل مشروعًا واضحًا: رفض الديمقراطية التمثيلية، وتصوّر بديلًا يقوم على "السيادة المباشرة للشعب" دون وساطة الأحزاب.
استثمر سعيّد غضب التونسيين من فساد النخب السياسية والفشل الاقتصادي الذي أعقب الثورة. وفي 25 يوليو/تموز 2021، استغل أزمة كورونا والشلل السياسي لينفّذ انقلابًا دستوريًا أطاح بمؤسسات الديمقراطية الوليدة.
ثم عزز سلطته من خلال تمرير دستور جديد في يوليو/تموز 2022، يكرس نظامًا رئاسيًا مطلقًا، قبل أن يهيمن بالكامل على البرلمان عبر انتخابات قاطعتها غالبية الناخبين، حيث بلغت نسبة المشاركة 12% فقط.
بناء نظام سلطوي بتأييد شعبي متآكل
بحسب "لوموند"، فإن سعيّد اعتمد في بدايته على تحالفات متناقضة، ضمت قوميين عربًا، يساريين معادين لحركة النهضة، وأوساط يمينية متشددة. لكن مع توالي الاعتقالات وتضييق الخناق على الإعلام والمجتمع المدني، تآكل هذا التأييد تدريجيًا.
أزمة اقتصادية عميقة تزيد الوضع هشاشة
رغم القبضة الأمنية المشددة، لا يستطيع النظام إخفاء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالبلاد. فمعدلات البطالة المرتفعة، التي بلغت 40.5% بين الشباب، ونقص المواد الأساسية مثل السكر والحبوب والحليب، إلى جانب الانخفاض الدراماتيكي في القدرة الشرائية، كلها مؤشرات على التدهور المتسارع.
وتحذّر الصحيفة الفرنسية من أن استمرار هذه الأزمة يهدد بتفجير موجة جديدة من الغضب الشعبي، رغم أجواء الخوف المتزايدة التي فرضها القمع.
#عاجل #تونس "الحكم الصادر في قضية التآمر غير مسبوق وتم بموجبه توزيع 892 سنة سجنًا على المتهمين"، وفق تصريح سمير ديلو عضو هيئة الدفاع عن المتهمين فيما يعرف بقضية "التآمر على أمن الدولة" pic.twitter.com/2zKkZi9vjL
— Ultra Tunisia الترا تونس (@ultra_tunisia) April 21, 2025
الجيش: بين الحياد والمخاوف من الانهيار
تاريخيًا، ظل الجيش التونسي بعيدًا عن الشأن السياسي. لكن في 25 يوليو/تموز 2021، لعب دورًا رمزيًا بدعمه لقرارات قيس سعيّد عبر نشر قواته أمام المؤسسات السيادية.
وتطرح صحيفة "لوموند" سؤالًا مهمًا: هل سيبقى الجيش على الحياد إذا تسببت سياسة سعيّد في انهيار الدولة؟ خاصة أن الرئيس التونسي، تحت شعار "تطهير الدولة"، بدأ يستهدف قطاعات تُعدّ من أعمدة الاستقرار، مثل الإدارة العامة.
ثورة مغدورة وانقسامات في الذاكرة الوطنية
تلفت الصحيفة الفرنسية إلى أن قيس سعيّد عمل على إعادة كتابة رواية الثورة التونسية، بالتشديد على تاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 (انتفاضة سيدي بوزيد)، مقابل التقليل من أهمية 14 كانون الثاني/يناير 2011 (سقوط بن علي). وقد خلقت هذه القراءة شرخًا في الذاكرة الوطنية، يعمّق الإحباط والانقسام بين الأجيال.
وتختتم "لوموند" تقريرها بالتأكيد على أن المشهد الحالي، رغم مظهر القوة والهيمنة، يخفي نظامًا هشًا تتآكله عوامل عدة: قمع سياسي واسع، واقتصاد متداعٍ، ومجتمع محبط، وجيش متحفظ لكنه مراقب عن كثب. وفي ظل هذا المشهد، يظل الخطر الأكبر كامنًا في هشاشة الاستقرار، وسط تصاعد مؤشرات الغضب الشعبي.