26-سبتمبر-2018

مشهد عام من أسمرا (Getty)

كما لو أنني شبح أسود في مطر غزير، توغلت إلى داخل المدينة، برفق وتفحصت الشوارع الأخذة في المتاهة وأشجار الباباي العاتية. إذ يبدو أن ذاك مصدر سعادتي الأكيدة، المشي تحت الغمام المُمطر، بالشعور المفعم بالشاعرية، كون هذه المدينة السمراء لا تنقضى عجائبها، مطلقاً حين تدغدغ روحك بالمسرات، وتلفظك على الفراش السعيد، كائن خفيف، مُطلق السراح بلا رهقٍ.

ذاك طريق يصل بك إلى أعلى ويعود بك في حيلة دائرية إلى نفس المكان، أعرفه من رجفة في القدم، كما أن هذه المدينة تقسو على من يحبون الشمس، أو من هم في حاجة للدفء بانتظام، إذ أنني لفرط الحظ لم أكن منهم، وقد تشبع جسدي بالحرارة الكافية لأن أبقى تحت درجة تجمد نحو دهر بارد، دون أن أتجمد. وكان الفندق، ذلك الفندق الذي أقطنه منتصب على جبل شاهق، هو في الغالب نحت لفنان من صخرة عملاقة، ما دعاني للشك المنخرط في اليقين بأنني أعتلى صخرة، لأنني في وقت متأخر من الليل شعرت بهزة عميقة، من هولها كانت الملاعق والأكواب على الأرائك البيضاء تصفع بعضها، كما لو أنها أصوات مرآب قطار مندفع.

عُدتَ بعد نوم حافل بالأطياف، جافل الرؤى، ورأيتها، هي، في المنحى الموسوم بدرج الاستقبال، مثل طيف يسبح في الضوء، كانت مفعمة بالحيوية، ترتدي تنورة بيضاء، تسفر عن وشم بديع، يغطيه وشاح من الشنقروا* يخفي بعض عريها، أما لونها فكان حنطياً، كا لو أنها مخلوق من الشمع، على هيئة نضيدة، أي لونها ينسدل من فوقه ديس على قُصرٍ بائن تحت أكتافها قليلاً، تبرز خيوط المُشاط الأفريقي، التي اعتنت به لا بد، طوال نهاراتٍ عنيدة .

اقتربت منها، بغير ثقة، ومزاجِ خجول، فلم تعرني اهتماماً، أو بالكاد التفتت نحوي، من متاهة وعرة، وتبرعت فقط بإبتسامة من ذلك النوع الذي يتعين على موظفات القطاع الخاص أن يجدن به، للإيحاء بأن كل شيء على ما يرام تقريباً. وقد كنتُ بالفعل لا أستحق أكثر من ذلك الرثاء، لأنني أقيم في غرفة رخيصة، بلا شرفات كافية للإطلالة على الناس والشوارع، وكان وجهي أيضاً مثل منفضة الدخان يتصاعد منه رماد الأسى.

شيئاً فشيئاً وضعت سماعة الهاتف بحركة في غاية الاحترافية، لفتاة في هذا العمر المحض الصغير. إذ يبدو أنها كانت تتحدث إلى نزيل بأحد غرف هذه الصخرة الباردة، المسماة بالفندق الأثيوبي، والذي كانت تنعدم فيه أجهزة التكييف والمراوح، حيث وهبته الهضبة الاستوائية درجة تكييف طبيعية.

قلت لها ما اسمك ؟
قالت روز!

فقط دون أن تلتفت إلي بخفة أشتهيها، حاولت أن أصطنع بعض المرح، وقلت في مداعبة لزجة: أين جاك؟ رفعت رأسها بشكلٍ يؤذن بالإطراق المُذعن.. تأملتني لبرهة خاطفة، وفاضت عيناها بدهشة هائلة، تحت أنين الصمت المنقطع لبضع ثوانٍ، قالت تيبو! بالأمهرية، على ما أظن.

قلت لا بأس، جاك غرق في التايتنك وافترسته الحيتان، كما افترست روز قصته بحبكة مبالغ فيها، لم ترضخ لمحاولتي البائسة صرف انتباهها عما تود قوله، فكررت على مسامعي، هكذا تقريباً ( تيبو .. تيبو) بدا الألق يغمر وجهها، مثل أم عاد طفلها من المدرسة، أول ما تتفحص جسده، وتتحسسه بالكامل، قبل أن تطلق تنهيدة حارة مُطمئنة.

بدت السماء داكنة والبرق يلمع على الصخرة، فأدركت في الحال أنها ستمطر، بكثافة غالباً، رغم أن المطر هنا لا يحتاج إلى مقدمات، ولذا يحمل كل شخص مظلة في يده، تحوطاً بالقدر نفسه لحدث تلقائي أكيد. طلبت كوب من الكابوتشينو، قدمته لي روز بنفسها عوضاً عن النادل، فطفَحت منه رغوة الحليب والكاكاو، على يدها الطرية المكتنزة بالصحة، ارتشفته أنا بمتعة تضاهي متعة النظر إليها، ولا أعرف أي متعة سرت في أوصالي!

قدمت لي قائمة الطعام، مرفقة بنصيحة أن الأكل في المطعم المجاور أفضل ورخيص، ما أثار دهشتي، أيضاً وبالمقابل، شعرت بأنها تسخر مني، لكنها قط لم تبخل علي بالأسرار التي أحتاجها وأنا أتسكع في المدينة، لائذاً من صمت الغرفة الصخرية، التي تند عن المألوف.

شعرت بنظراتها، أي روز، تنتزلق فوق ظهري، وتمسدني، لكنني قط لم أفض سر اهتمامها المفاجئ بي، ومن تقصد بتيبو؟ كررتها مرة بعد أخرى، وتصاعد اهتمامها منذ أن تصلب قوامي قبالتها، في ذلك الصباح الأول لي في فندق الصخرة، أو كما أحب أن أسميه.

أنفقت سحابة نهاري كله في أحياء العاصمة المطيرة، بولي رأس، بياسا، والمطعم السوداني، ومن ثم انسحبت إلى مقهى تقيست ذي الإضاءة الخافتة المُلهمة. وما تقيست إلا تلك الراقصة التي أفلحت في ترويض مشاعرنا باكرًا، وغلبت على أوقاتنا بالسمر، حين عاشت بعض عمرها في الخرطوم وحذقت الأغاني والرقص، بالبراعة نفسها، حيث كانت تضرب الأرض بقدمها كطاووس مختال، والخلاخل تسبغ عليها وسامة مشتهاة. أي ضعف ينتاب الرجال جراء خلاخل الزينة النسائية، والزُمام الذي يتدلى من فتحة الأنف بافتتان حار.

كانت تيقست بلا عظام تعيق التواء جسدها حين ترقص. وبالمرة فى المقهى، كان صوت الفنان السوداني (سيد خليفة) يتصاعد في الأرجاء طويلاً طويلاً "هو جاري وأنا جاره .. أتعذب بي ناره" نفس الأغنية في المقهى وفي السيارة وفي الفندق أيضاً، وأظنها في مكان آخر، حتى أنني بعد عودتي الناعسة للفندق، وجدتها، هى روز، تنتظرني غاضبة كما بدا على وجهها، والأستريو المثبت على الحائط الناعم تعب من ترديد ذات الأغنية " هو جاري وأنا جاره" بموسيقاها الراقصة الطروبة.. وقد ألقت على روز محبة منها، قبل أن تباغتني بمحاذير اخترعتها هي إذ لم تكن خاصة بالفندق.

قالت: ممنوع السهر واصطحاب الفتيات والشراب في الفندق، وحتى بالخارج!

قلت لها لم أفعل أي من ذلك

لكنها صفعتني بالرد: لا يهم، فقط أحذرك، وركلت باب السيارة، بغضب مفتعل، كأنها تريد أن تقودني إلى غرفتي البائسة، قبل أن تتوغل إلى الداخل، حيث سوف تختفي، بعد قليل، كما حدث حقاً حين صعدَت مدارج السلم. التفت فلم أجدها، كانت مثل التميمة الحارسة أو الطيف، تلاشت تماماً، وبالرغم من أنها لا تتحدث إلى كثيراً، لكنها بالضبط تعرف من لغتي ما يكفي لتحذرني فقط من المخاطر التي تبدو لها، أو تسترق نظراتها لتتأملني بشكل يبعث فىٌ لذة التفكير.. كم هى جميلة ومُمحنة وغامضة .

في صباح اليوم التالي، أيضاً قالت بمجرد أن رأتني، تيبو هل نمت جيداً؟ وضحكت هذه المرة حتى لمعت أسنانها البيضاء مثل فناجيل القهوة، وبان لسانها الأحمر كخيط من الحرير، حيث فاجأتني كعادتها منذ أن عرفتها يوم أمس، لكنني لست تيبو.

قالت بلا مناسبة: والدتي صنعت لك طعام الانجيرا* الذي تحبه.

ذلك الطعام الحبشي الحادق الشهي، وكان صوتها حنوناً متكسراً، بالقدر الذي فاقم حيرتي، وبدوت مثل طحلب في حوض زجاجي، أتأمل الأشياء من حولي ببلاهة صاخبة، لكنني أليت على نفسي أن أسألها من تيبو؟ وقبل أن ترد ببشاشة لوحت بتميمة عليها صورة فتى يشبهني لدرجة التماثل، وكان مفعما بالحيوية، يرتدي زياً عسكرياً غامقاً، ويده معكوفة بعلامة النصر، وهى بذلك تظن أنها حررتني من الدهشة، لكنها ورطتني أكثر في إضمامة من الأسئلة؛ من تيبو، تُرى من هو؟ تناولنا معاً طعام الأنجيرا المصنوع من الذرة المُخمرة ولحم الماعز المجفف، حتى شعرت بأن معدتي تتلوى وتصرخ، من هذا الطعام، الذي لم أتعود عليه بالطبع، وقد ارتسمت على تضاعيف وجهها مجدداً ابتسامة فاقعة.

قالت ما الذي جاء بك إلى هنا؟ 

قلت إذاً : أنا لست تيبو.

طفرت منها دمعة خالية من النواح، إذ يبدو أنها تذكرته، بالفعل قبل خمس سنوات، حين كان شقيقها على جبهة القتال الإرترية، وقرر الهروب من الجبهة، بعد أن سئم من تلك الحرب اللعينة المحتدمة، قبل أن تتوقف أخيرًا، لكن رصاصة طائشة، أو متعمدة، اخترقت جسده، ومات في الحال . قال الجنود العائدون: لقد تم إعدامه في الميدان حين حاول الهروب، وأصبحت أمه مُذلك الوقت تناغم السماء، أين قمري، تيبو .. تيبو. وشقيقته أيضاً تحاول كدأبها أن تطارد رائحته في كل مكان، وقد منحتها بعض من الأمل المفقود، في عودة مجازية على الأقل، ومنحني حظي العاثر رفقة جميلة مع روز، تعتني بي، كما لو أنني شقيقها، وتحبني أيضاً بقدر ما تكره الحرب. 

 

* شال أثيوبي من الصوف 
** الطعام التقليدي في منطقة الحبشة 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

چاچـــي

إلى سعاد حسني.. سعادتي الأبدية\