استقبلت لندن الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، بحفاوة بعد الإهانات التي تعرّض لها، الجمعة الماضي، في البيت الأبيض. وبدا من الحفاوة البريطانية والتضامن الأوروبي الواضح مع أوكرانيا ورئيسها أنّ أوروبا مستعدة لمواصلة دعم المجهود الحربي الأوكراني. وربما تذهب القارة العجوز أبعد من ذلك بمواجهة الإرادة الأميركية المتمثلة في "إرغام" كييف على ما يقول الأوروبيون إنه استسلام وليس اتفاق سلام مع روسيا، لسبب بسيط وهو غياب الضمانات الأمنية الحقيقية التي تضمن أن الروس لن يشنّوا حربًا جديدة على أوكرانيا مستقبلًا، أو على أي بلدٍ أوروبي آخر، مثل مولدوفا أو رومانيا، وفقًا لتصريح أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس السبت.
وسيتطلّب عدم الإذعان الأوكراني والأوروبي لإرادة فرض السلام الأميركي من زعماء القارة العجوز تعويض الدعم الأميركي من جهة، وربما إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا من جهة ثانية، مع الإشارة طبعًا إلى أنّ هذا الإجراء لا يحظى بإجماع أوروبي حتى الآن.
لكنّ بريطانيا التي تستضيف القمة الأمنية الأوروبية لدعم أوكرانيا، تعتقد أنّ ثمة إمكانية لإصلاح الضرر الذي لحق بالعلاقات الأوكرانية الأميركية، فبعد استقبالها لزيلينسكي، أجرى رئيس وزرائها، كير ستارمر، اتصالين أحدهما بواشنطن مع ترامب، والآخر بباريس مع ماكرون، في محاولة من ستارمر لتجاوز آثار وتداعيات المشادة الكلامية في البيت الأبيض، ودفْع اتفاقية المعادن النادرة بين ترامب وزيلينسكي قدُمًا، مع التأكيد بالطبع على ضرورة عدم تخلي الولايات المتحدة عن كييف، بقطع المساعدات عنها أو عدم دعْم تقديم ضمانات أمنية لها، تحت الصيغة الأوروبية لصفقة سلام عادلة، تسمح بنشر قوات أوروبية، وعدم نزع سلاح كييف، واستعادة ما يمكن استعادته من الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية، مقابل انسحاب القوات الأوكرانية من كورسك الروسية، وربما رفع العقوبات الأوروبية عن روسيا وعن أموالها المجمّدة في أوروبا.
وذلك ما ألمح إليه ماكرون في زيارته الأخيرة للبيت الأبيض، عندما تحدث عن الأصول الروسية المجمدة، بوصفها ليست ملكًا للأوروبيين، دون أن يستبعد في المقابل اتخاذها وسيلةً لتعويض القروض والمساعدات التي بذلتها الدول الأوروبية لأوكرانيا.
تقترح بريطانيا وفرنسا وأوكرانيا على إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب صيغةً جديدة لاتفاق السلام مع روسيا لا تتضمن تنازلات أوكرانية صعبة وتُقدّم في المقابل ضمانات أمنية حقيقية لكييف
قمة لندن الأمنية: ضمانات جديدة لأوكرانيا
يتباحث نحو 15 زعيمًا أوربيًا، اليوم الأحد، قضية الضمانات الأمنية الجديدة التي تحتاجها كييف، في ظل التوجه الواضح من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتخلي عن الأوكرانيين، وفي المقابل استعادة العلاقات مع روسيا وتطويرها.
حرص الأوروبيون على إظهار مستوى دعمهم لكييف قبل وبعد زيارة الرئيس زيلينسكي للعاصمة وواشنطن، فبالتزامن مع الذكرى السنوية الثالثة للحرب، 24 شباط/فبراير المنصرم، تقاطرت الوفود الأوروبية على العاصمة كييف معلنةً عن حزمة مساعدات عسكرية واقتصادية جديدة لأوكرانيا، في مقابل فرض عقوبات إضافية على روسيا.
وبعد المشادة الكلامية التي جرت في البيت الأبيض، التي تعرّض بمقتضاها زيلينسكي لإهانات من الرئيس ترامب ونائبه جي دي فانس، سارع الأوروبيون لدعم الموقف الأوكراني، فتمّ الإعلان عن قمة لندن، ووقّعت الحكومة البريطانية مع زيلينسكي اتفاقية قرض بقيمة 2.26 مليار جنيه إسترليني، بهدف دعم القدرات الدفاعية لأوكرانيا. مع الإشارة إلى أنّ هذا المبلغ "سيُسدَّد من أرباح الأصول الروسية المجمّدة".
كانت تلك رسائل واضحة بأن أوروبا ليست في وارد التخلي عن دعم أوكرانيا، وإن كان الموقف الأوروبي يعاني هو الآخر من انقسامات، خاصة بشأن إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا، ففي مقابل الحماس البريطاني والفرنسي للفكرة، تُعارض بولندا، المعروفة بدعمها الشديد لأوكرانيا، الفكرة، كما تعتبرها ألمانيا وإسبانيا ودول أخرى، سابقة لأوانها، وليس من المفضّل طرحها للنقاش أصلًا.
يشار إلى أن زيلينسكي قال في منشور على تليغرام: "إنّ أموال الاتفاقية التي أقرضتها بريطانيا لأوكرانيا، ستُستخدَم لإنتاج أسلحة في أوكرانيا"، في إشارة منه إلى تطوير استراتيجية الاعتماد على الإنتاج المحلي، وإمكانية الاستغناء عن الدعم الأميركي، في حال وفّرت أوروبا البديل.
وسيحضر قمة لندن الأمنية، كلٌّ من: "الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته، ورئيسا المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي، أورسولا فون ديرلاين وأنطونيو كوستا".
وبحسب وكالة فرانس برس، سينصب التركيز في قمة لندن على مناقشة المسائل التالية:
- تعزيز موقف أوكرانيا في الوقت الحالي، ويشمل ذلك توفير الدعم العسكري المستمر وزيادة الضغط الاقتصادي على روسيا.
- الطرق التي ستؤدي بها أوروبا دورها في مجالات الدفاع المختلفة
- الخطوات اللاحقة للتخطيط لضمانات أمنية قوية في القارة، في ظل مواجهة خطر انسحاب المظلة العسكرية والنووية الأميركية.
قمة استثنائية أخرى في بروكسل: نحو بناء دفاع أوروبي مشترك
لن يكتفي الأوروبيون بقمة لندن، بل ستستضيف عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل قمةً أخرى استثنائية في السادس من آذار/مارس الجاري، من المتوقع أن تشهد الإعلان عن خطوات عملية، حول ما جرى نفاشه والتباحث فيه في قمة لندن المنعقدة اليوم، ولا سيما فكرة "بناء دفاعي أوروبي مشترك" بمعزل عن حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وذلك ما أوضحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مقابلة له أمس السبت، بقوله: "يجب على دول الاتحاد الأوروبي أن تُحرز تقدمًا سريعًا نحو تمويل مشترك ضخم ومكثف، بمئات المليارات من اليورو، بهدف بناء دفاع مشترك".
وكانت بريطانيا أعلنت هذا الأسبوع عن زيادة تاريخية في إنفاقها العسكري، ستدخل حيز التنفيذ ابتداءً من العام 2027.
يشار إلى أنّ وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، ردّت على المعاملة السيئة لزيلينسكي في البيت الأبيض ومحاولة إرغامه على تقديم التنازلات الصعبة لروسيا، بالقول: "لقد بدأت حقبة جديدة من العار"، مضيفة: "يجب أن ندافع في هذه الحقبة الجديدة أكثر من أي وقت مضى عن النظام الدولي القائم على القواعد وقوة القانون، في مواجهة قانون الأقوى"، وسيتطلب ذلك حسب الوزيرة الألمانية "تخفيف أحكام الميزانية المحلية والأوروبية من أجل توفير موارد إضافية لمساعدة أوكرانيا وتعزيز الدفاع الأوروبي".
أما منسقة السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس فقالت تعليقًا على أحداث البيت الأبيض إنه "بات واضحًا أن العالم الحر يحتاج إلى زعيم جديد. يتعين علينا نحن الأوروبيين أن نواجه هذا التحدي".