11-سبتمبر-2019

جورجي راندو/ إسبانيا

أزاحت الشمس الغيوم الرّاكدة التي تتحرّك ببطء شديد، وتجبّرت في السماء تلفحُ الأجساد، وتنشرُ ريشتها الساخنة على الأرض في استعلاء منقطع النّظير. بدأ أيّور يومهُ بحركةٍ ونشاط، لملم أشياءهُ بسرعة، وخرج إلى مقهى الحيّ. أيّور هذا لا يعمل، يكتفِي بالسرقة والضرب والجرح، له وجهٌ دائري، وأنف أفطس، ولحية كثيفة وشعر أشعث، وجهه كله جروح ضرب بها الزمان عرض الحائط، يضع سلسلة فضيّة في عنقه، وساعة يدوية صفراء فاقعٌ لونها تُحيطُ بمعصمه. طلب قهوته السوداء كعادته كل صباح، فهو ينحدر من صنف أولئك الّذين يقولون، أنّ أعينهم لا تفتح إلّا بعد شرب القهوة، التي ارتبطت بالمُثقف العربي ارتباطًا وثيقًا؛ وهو ارتباطٌ ليس في محلّه ويجبُ مراجعتهُ.

شكّلت السرقة بالنِّسبة له مُنعطفًا حاسمًا في حياته. لا يخرجُ من المنزل قبل أن تمنحه أمه التي تشتغلُ في المنازل كامرأة نظافة، ورقة نقديّة من فئة عشرين درهمًا. وفي منتصف الليل ينتظرُ أخته حنان بشغفٍ شديد. حنان، تمتهن الدعارة، تبيع جسدها بثمن بخس، دراهم معدودات. هي جميلة لدرجة مبهرة، لها خصرٌ متراص، ومُترامية الأطراف، أسيلةَ الخدّ، دقيقةُ الأنف، مرتوية الساقين، لها شعر ناعم يشدُّ النّاظر إليه، وعنقٌ عاجي تُحيطُ به سلسلةٌ فضية كما يُحيطُ السوار بالمعصم. لم تجد سبيلًا لكي تبتعد عن هذه الطريق المحفوفة بالمخاطر. تمشي مشية حمامةٍ بيضاء، كلّ من يراها يتقفّى خُطاها، حتى يفوز بها ضحية، يستطيع دفع سومة الكراء أو ثمن دواء أمها التي تعاني من مرضٍ مزمن حاد. كلّما عادت تجدهُ واقفًا في رأس الدّرب، كوقفة جنديٍّ في أرض المعركة، يستوقفها بنظراتٍ ثاقبة وكلمات فجّة، يطلبُ منها قدرًا من المال، بمجرّد أنْ تُعارضه تتلقى صفعةً أو صفعتين فتستلّ المال من حقيبتها دون هوادة. تعيشُ واققًا بئيسًا. أنْ تعيش في ضحالة هذا العالم وأنت تنحدرُ من الطبقة المغلوب على أمرها فإنّك تستحقُّ وافر الإشادة والثّناء.

يمتطي أيّور دراجةً نارية برفقة زميلٍ له يدعى ياسين. يحترفان مهنة النّشل منذ سنوات، سبق وأن زجّ بهما في السجن بتُهمة الضرب والجرح المُفضي لعاهة مُستديمة بساطور كبير. يختاران الضحايا بعنايةٍ كبيرة، لكن جلّ هؤلاء الضحايا ينحدرن من طبقة المسحوقة. لماذا جل اللصوص يسرقون أبناء طبقتهم؟ لماذا يتركون الأغنياء ينعمون بالرّاحة التامّة؟

يضع أيور سكينًا من الحجم المتوسط تحت الجاكيت يهدد به ضحاياهُ، يمتازُ بخفّة حركته، حيث يرتكبُ جريمته ولا يُخلّف وراءه أثرًا، ولا يترك مجالًا لملاحقته من طرف الجحافل الذين يدّعون التضامن في الأوقات العصيبة.

تلبّدت السماء بالغيوم، وكانت على وشك أن تمطر، وينتعش التراب بحبّات المطر الشحّيح. وحدهُ المطرُ قادرٌ على إسكات آلام الإنسان، وضخِّ الحبِّ والعشق وما تلاهما في قلبه. خرج أيّور مصممًا على ارتكاب جرائمه المعتادة، السرقة الموصوفة مع سبق الإصرار والترصُّد أحيانًا، وأحيانًا أخرى الضرب والجرح. في ذلك اليوم نُظِّمت سهرة فنيّة، حضر لها المهتمّون بالشأن الفنّي، وجحافل من الجمهور المحبّين للموسيقى بشتّى أنواعها. ظنّ أيّور أنّ هذا اليوم سيأتي بغنيمة، تكفيه لأسبوع، من أجل اشتراء الخمر ولفافة الحشيش. كلّما دخّن لفافة الحشيش تجتاحه سعادة غامرة لا يُقايضها بأموال الدّنيا.

أُصيب ياسين بوعكةٍ صحيّة شلّت حركتهُ، ولم يستطع أنْ يفارق فراشه الدافئ، أو أن يُواكب مع أيّور اختيار ضحاياهما. توجّه أيور بدراجته النارية، المتهالكة، التي لا تتعطّلُ بتاتًا، إلى الحفل الذي يقام قبالة شاطئ البحر. يفصلهُ شارع واحد عن الوصول إلى المكان الذي يقصده. وفجأة، ارتطمت دراجتهُ بسيارة فارهة، لم يره صاحب السيارة، لأنّ أيّور كان يقود دراجته بتهور مبالغ فيه، ولم ينتبه لإشارات المرور. الخطأ هو العيب الذي نقترفه دون إرادة. صدمهُ فأرداه قتيلًا، الدم ينزف من رأسه بكمية كبيرة، ملامح وقسمات وجهه لم تعد هناك إمكانية لرؤيتها بسبب الدماء التي اكتسحتها. تجمهر النّاس في لمح البصر، بين من يتأسّف على الحادثة، وبين من أبدى انزعاجه بسبب الحادثة التي ستؤخره عن موعدٍ ما.

الموتُ يباغتنا في كل حين. مات أيور الذي لم يكن له حلم سوى العيش في هذا العالَم الذي لم ينصفه. الحياة لا تتّسمُ بالإنصاف. ربّما تلك الجرائم التي كان يرتكبها، لم يكن يقدمُ على ارتكابها بحبٍّ وشغفٍ كبير، فنحن لا نختار أقدارنا، ولا نختار الطريق التي سنسلكها. ربّما واقعهُ المتشرذم حتّم عليه فعل ذلك. ترك وراءه أمٌّ أُصيبت بمرض الخرف لها قلبٌ مكلوم، تألّمت كثيرًا لوفاته، فهي التي تعذّبت أثناء المخاض، وعانت وهو يحبو على قارعة الطفولة، وسهِرت على تربيته، وعلّقت أحلامًا كثيرة عليه. إذا اندثر الحلم والطموح مات الإنسان. أخته حنان امتهنت حرفةً في مدينةٍ تُمارِسُ فيها الشّهوة حقّها، فأصبحت الذئاب الجبليّة تُكشِّر عن أنيابها في كل حين وتحوم حولها من أجل الظفر بجسدها الذي يُشبه جذع شجرة الموز، ستظلُّ كذلك حتى تُرمى في يومٍ من الأيام كما ترمى جثت الحيوانات الهامدة. الظروف حكمت عليها، تمرّغت على شفير المأساة والقسوة، فارتادت الحانات والملاهي الليلة، إلى أن اختارت طريقها وحققت مرادها. لم يعثر أحدنا لحد الآن على خُطّةٍ ناجعة من أجل مُناورة الحياة. أيّور وأمه وأخته حنان هم نموذج لأسرٍ من الطبقة المسحوقة؛ التي تعاني في صمت، وبقلوب مُتلاشية ومنكسرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنْ تكونَ كيسَ الملاكمة

أهكذا تكون الغربة؟