22-يوليو-2018

مصطفى ربيع/ مصر

خرجتْ من وراء الجامع وشتمت وبصقت:

ـ "أنا عزيزة بتاعة حسن يا ولاد الكلب".

صدرها ممتلئ يعلو ويهبط ببطء. كانت وحدها في هذا الوقت المتأخر، ترفع عينيها تراقب الضوء وهي مزمومة الشفتين تمامًا. ضوء بعيد في نوافذ متناثرة، ومئذنة جامع الاستقامة مطفأة حاليًا وصامتة. تقف وظهرها لكشك الشرطة، يجلس الأمين وراء الزجاج الشفاف ومعه مجند يقف كالديدبان بالسلاح ويهش الهواء بيده من وقت لآخر. سنترال الجيزة بإضاءته الشاحبة يمتد ساكنًا مستطيلًا، وعلى جداره الخارجي أربعة تليفونات منفصلة. عندما وصلتْ إلى أول تليفون زغردت زغرودة رنت في سكون ميدان الجيزة كله.

ترفع السماعة وتبتسم. تقرأ آية من القرآن، وتسكت. ثم تقرأ آية أخرى بصوت منغم وجاف، تفتح فمها عن أسنان متفرقة صفراء:

ـ "آلو.. آلو.. لو.."

يبدو أن الخط انغلق بتكة واحدة ولعلها أخطأت النمرة. تضغط علي زر النحاس المستدير وهي مستفزة، لم تجد العملة راسية كالعادة في قاع التليفون، زفرت وتلفتت حواليها. كان الأمين يخرج من الكشك الزجاجي والجندي وراءه بالكرسي والسلاح على كتفه. يجلس الأمين وسط الشارع الخالي بعيدًا عن الكشك الخانق الرطب.

حين رأتْه يجلس هكذا ويبصق ألقت السماعة تتدلى في الفراغ ثم مشت إلى تليفون آخر بعيد عنه وقبل أن تضع آخر قطعة عملة في يدها وتكرر ضغط الأرقام قرأت نفس الآية ثم رفعت السماعة.

هناك جرس طويل متباطئ. تنكس نظرتها على ثدييها وبطنها وتنتظر أن يرد الآخر:

ـ " آلو.. الصول محمد.. قولوا له عزيزة بتاعة حسن".

المجند استدار ينظر إليها في حركة آلية من تحت غطاء الرأس الأسود، ثم ابتسم وعاد إلى وضعه السابق يتأمل واجهة عمر أفندي المغلقة حاليًا وراح يهش الهواء ودخان سيجارة الأمين.

كان الجرس الطويل المتباطئ قد انقطع فجأة تلاه جرس سريع يتلاحق نابضًا.. نقاط صوتية تتقاطر في أذنيها.. رتيبة.. تهز السلك الفضي مرة أخرى لا تظن أنه لا دخل له بشيء، تقف ورأسها في الورقة المكرمشة تعيد من خلالها ضغط الأرقام، وتدلك ذقنها، تنظر في غضب والسماعة لا تزال على أذنها. تهز رأسها مرات ومرات بطفولية، تبتسم فجأة، نظرات لامعة محايدة:

ـ " آلو.. القطار الحربي وصل يا جدعان.. وكان فيه مكان في العتمة.. وفي مكتب الصول قطة والدة وولادها خربشوا ضهر ايده.. والدم.. خد تعويض ألف جنيه وأنا واقفة بالقميص والسوتيان.. والدم.. قلت اتصل بعبد الحليم حافظ في الطربة وأقول له.. الصول أداني ولاد القطة وفوقهم بريزة. قال لي: اركبي ترماي حلوان.. أنا فتحت بالبريزة مكتب بوسطة بس الجوابات كلها لعبد الحليم حافظ.. أصل أنا عندي فرح الليلة.. آه يا واد يا اسمراني دا أنا قلبي إسكندراني.. آه يا واد يا إسكندراني.. دا أنا قلبي اخضراني.."

زغاريد وشخللة بالصاجات في الميدان كله والأمين أطلق المجند وراءها وقال له: "امسكها".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ورقة في مرسم

جدي الذي يسمع بأذن واحدة