26-ديسمبر-2018

غرافيتي لـ DALeast (ديلي ميل)

وصلتُ في حدود منتصف اللّيل إلى مدينة معسكر، 400 كيلومتر إلى غرب الجزائر العاصمة، علمًا أنّها كانت عاصمة مؤسّس الدّولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر في النصف الأوّل من القرن التّاسع عشر. وهي لحظة تعرفني وأعرفها منذ سنوات. فقد ألهمتني ولحظات أخرى في المدينة أربعة كتب.

كان هاتفي قد لفظ آخر أنفاسه قبل أن أصل بساعة. لماذا لا يوفّر السّائق الجزائري فرصة لزبونه لأن يشحن هاتفه، ويستمتع بالقول إنّ ذلك غير متاح؟ لذلك لم أستطع أن أخبر أصدقائي من مسرح القمر الخامس بقرب وصولي حتى ينتظروني كالعادة، فذرعت المدينة وحدي منتشيًا بذلك. إنّ الخلوة عندي لا تعني العزلة بالضّرورة. فقد أمارسها في عزّ الهواء الطلق أو في قلب الضّجيج. ومن ضمن وظائف ريشتي أنّها تساعدني على ذلك.

هل لاحظتم أننا في موسم تزاوج القطط؟ وهو من المواسم التي تلهمني وتجعلني متشبّعًا بروح الخصوبة. وقد كان في استقبالي، ما أن نزلت من سيّارة الأجرة قبالة مقرّ البلدية، قطّ يطارد أنثاه.. ياه.. كان غارقًا في الوصول إليها إلى درجة أنه لم يخف من وصولي إليه. لازلت أتذكّر كلّ المرّات، التي عادت يداي فيهما مرقّشتين بالخدوش من مساعدة قطّ على التمكّن من قطّة.

سأحكي لكم هذه: كنا نملك قطة في قرية أولاد جحيش. وكانت لا تغادر البيت حتى في موسم التزاوج، فحملتها مرّة إلى قطّ جارتنا خضراء بنت السّعيد، وجعلتها عروسًا بين يديه، فانتقمت منّي بأن جعلتني أعود إلى البيت بلا يدين. وقد استعملت يدا جدّتي مريم كلّ مواهبها في ضربي. ولم أعلم إلا بعد أن كبرت أنها ضربتني لأنها كانت متهاوشة مع صاحبة القط، وقد رأت في خدمتي لقطها خدمة لها. ماذا لو تحدّث القط الجزائري عن الحجارة والأرجل التي يتلقاها في الشّارع الجزائري؟

نقلت نظري من عيني القط إلى عيني تمثال الأمير عبد القادر، فلمحت شبقًا آخر. هل يجوز لي أن أسمّيه شبق التّاريخ؟ لماذا لا يكفّ صنّاع البطولات عن النظر إلى الأفق؟

وقفت عند قدميه وأطلقت ضحكة تشرّبها الصّمت وضوء القناديل. للصّمت والضّوء اللذين يغمران ساحة الأمير عند منتصف الليل طعم خاص، وأنا يا سيّدي الأمير خائف من الصّمت والظلام، اللذين باتا يغمران اليوميات الجزائرية. خائف من الخوف السّاكن في العيون والنّفوس والعقول والجنبات. وما يُضاعف خوفي يا سيّد الحسام والقلم أنه خوف خاص. هل سبق لك أن عشتَ هذا النّوع من الخوف، حيث تخاف على الغد وتخاف منه في الوقت نفسِه؟ أما أنا أيّها الأمير الشّاعر، فلا أملك أن أواجه هذا الخوف إلا بالسّعي إلى أن أعيد القصيدة إلى السّاحة. هذه وظيفتي وما كنّا لنصل إلى هذا المقام لو قام كلّ طرف منا بوظيفته.

على بعد خطوات ينتظرني شباب فنّانون صارحوني بأنهم لا يستطيعون أن يعشّوني، فهم بطالون أو جامعيون. كيف تسمّي مقامًا يرتبط فيه فراغ الجيب بممارسة الفنّ أو العلم، وامتلاؤه بتركهما أيّها الأمير؟ لكنّهم يستطيعون أن يمنحوا لمشروع "المقهى الثقافي" أوقاتهم وأعصابهم وأحلامهم وأرواحهم وعضلاتهم. هل كان المشروع سينجح لولا هذا المعدن من الفنّانين؟ هل تصدّق أنهم سيثرون ساحتك بعد أيام بعشرات الأرواح والآذان لسماع الشّعر والكمان؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تخيلات أنثى سريالية

نبي الشعر