30-يناير-2025
أزمة قطاع النقل في سوريا

(Getty) يعاني قطاع النقل في سوريا مشاكل متراكمة نتيجة سياسات النظام البائد

 

شهدت مناطق سيطرة نظام الأسد، خلال الفترة الأخيرة من حكمه، انهيارًا في قطاع النقل فاقمت من معاناة السوريين، وزادت من أعباء السائقين الذين كانوا يواجهون صعوبات كبيرة في الحصول على الوقود نتيجة السياسات المجحفة في توزيعه. لكن هذا تغير بعد سقوط النظام الذي فرض واقعًا وتحديات جديدة.

 

تحرير الأسعار دون زيادة الرواتب

بعد إسقاط النظام السابق، أعلنت "إدارة العمليات العسكرية" إمكانية تعبئة الوقود للجميع وبالكميات التي يريدونها، لكن دون تحديد السعر. ونتيجة ذلك، تجاوز سعر ليتر مازوت النقل حاجز 15 ألف ليرة بعد أن كان يباع بألفي ليرة، بينما تراوح سعر لتر البنزين بين 25 ألفًا و30 ألف ليرة، بعدما كان حوالي 12.500 ليرة، ما أدى إلى ارتفاع جنوني في أجور المواصلات.

يقول مناف (24 عامًا)، من إحدى قرى ريف طرطوس، وهو ممرض في مستشفى حكومي، إنه: "بعد سقوط النظام بأيام، ذهبت إلى دوامي كالمعتاد ودفعت أجور النقل ذهابًا وإيابًا في يوم واحد 55 ألف ليرة سورية، علمًا أن منزلي يبعد عن المستشفى فقط حوالي 18 كيلو متر".

أدت التسعيرة الجديدة إلى ارتفاع أجور النقل حتى خمسة أضعاف مع إبقاء رواتب الوظائف الحكومية على حالها

ويضيف في حديثه لـ"الترا صوت": "راتبي لا يتجاوز 300 ألف ليرة سورية، أي أنه يكفي لأقل من أسبوعين أجور مواصلات فقط"، مؤكدًا أنه كان يدفع قبل تحرير سعر المحروقات 5 آلاف ليرة فقط باليومك أجور نقل.

واستمرت الفوضى في تسعير أجور النقل حتى صدرت تسعيرة رسمية من الإدارة العامة، حيث تم تحديد الأجر بـ300 ليرة سورية لكل كيلومتر للراكب. وذكر سكان محليون أن التسعيرة الجديدة أدت إلى ارتفاع أجور النقل حتى خمسة أضعاف مقارنةً بالفترة الأخيرة من عهد النظام السابق، مع إبقاء رواتب الوظائف الحكومية كما هي.

وصدرت بعد ذلك نشرة من قبل الإدارة الجديدة لتسعير المشتقات النفطية، حيث سعّرت لتر المازوت بـ1.028 دولار أمريكي، والبنزين ب 1.16 دولار، الأمر الذي أدى إلى ضبط الأمور.

يقول تميم (44 عامًا)، من مدينة الشيخ بدر في ريف طرطوس، موظف في مؤسسة الكهرباء في مدينة طرطوس، إن ترك الوظيفة في مثل هذا الوضع أصبح أوفر للموظف من بقائه فيها.

ويضيف لـ"الترا صوت": "إن أجرة سرافيس الشيخ بدر - طرطوس أصبح بعد التسعيرة الجديدة 13 ألف ليرة بعد أن كان 2500 ليرة في عهد النظام البائد". ويشير تميم إلى أن الدوام في عهد النظام البائد كان شكليًا، إذ لم يتجاوز في المؤسسات الحكومية يومًا أو يومين أسبوعيًا، مما أتاح للموظف أن يعمل في وظائف إضافية لتأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم.

أما الآن، وإلى اليوم، لم يصدر أي قرار رسمي بزيادة الرواتب مع التشديد على الدوام يوميًا من الثامنة صباحًا إلى الثالثة ظهرًا. ويضيف تميم لـ"الترا صوت": "أحتاج يوميًا إلى نحو 30 ألف ليرة كأجور نقل، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف راتبي شهريًا لتغطية أجور المواصلات فقط".

يؤكد العديد من سائقي "السرافيس" أنهم كانوا في عهد النظام البائد يتحايلون بشتى الطرق لكي يستطيعوا توفير جزء من مستحقاتهم من المازوت من أجل بيعه في السوق الحر

بالنسبة للرواتب، لا يوجد أي قرار رسمي برفعها حتى هذه اللحظة، واقتصر الأمر على تصريحات متفرقة. وفي هذا السياق، صرح وزير التجارة السوري، ماهر خليل، لإحدى وسائل الإعلام بأن زيادة الرواتب بنسبة 400 بالمئة أُقرت بالفعل، ولم يتبق سوى بعض الأمور التنظيمية، مؤكدًا أن القرار سيصدر بشكل رسمي خلال أيام بالتزامن مع تحرير السوق، الأمر الذي أعاد الأمل إلى الموظفين السوريين.

 

انهيار جديد بالقوة الشرائية المتهالكة

بعد سنوات الحرب الطويلة، نهش الفقر جسد المجتمع السوري، حيث صرح مارتن غريفيث مسؤول الشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ بالأمم المتحدة، في عام 2023، أن 90 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر. لكن قرار تحرير أسعار المحروقات الأخير فاقم الأوضاع المعيشية، مما أدى إلى تجاوز نسبة الفقر عتبة 90 بالمئة، الأمر الذي زاد من صعوبة الحياة على الكثيرين.

يقول سامي (48 عامًا) من سكان الساحل السوري، وهو أب لطفلين لموقع "الترا صوت"، إن القدرة الشرائية لديه انعدمت تمامًا بسبب ارتفاع أجور النقل. ويضيف لـ"الترا صوت": "أصبحنا نعتمد على مونة البيت بالإضافة إلى الاستدانة من الأقارب لتأمين ما يسد الرمق، وقد اضطررنا في الأيام الأخيرة إلى أكل الزعتر بالماء بدل الزيت لعدم قدرتنا على شراء الزيت".

بينما يقول أبو رامز (55 عامًا)، وهو تاجر ألعاب من اللاذقية، إن الوضع حاليًا أفضل من ناحية سهولة وصول البضائع من المعامل، والتي كانت تعرقله حواجز الفرقة الرابعة بالإضافة إلى فرضها الإتاوات ومصادرة جزء منها. ويضيف لـ"الترا صوت": "صحيح أن نقل البضائع بين المحافظات أصبح أسهل لكن السوق في حالة ركود نتيجة تراجع القدرة الشرائية للمواطن، فقد اقتصر شراء الألعاب على الأثرياء".

 

الناجي الوحيد هو سائق السرفيس

على الجانب الآخر، دفع ارتفاع أسعار المحروقات سائقي السرافيس إلى التزام أكبر، حيث شهدت الكراجات في مختلف المحافظات ازدحامًا بالسرافيس، في مشهد لم يألفه السوريون منذ أكثر من عقد.

وعن ذلك، يقول عليّ (21 عامًا) من محافظة طرطوس لموقع "الترا صوت": "أول مرة بحياتي بشوف السرافيس صافين وناطرين الركاب". وأشار علي إلى أن كراج طرطوس في العهد السابق كان يعج بالمواطنين الذين ينتظرون أحيانًا لأكثر من ساعتين حتى يأتي سرفيس واحد، لتبدأ حينها معارك الركض والتدافع بين الركاب للفوز بمقعد. ويضيف: "السرفيس الذي يتسع نظريًا لـ14 راكبًا، كان يحمّل 22 راكبًا".

ويشارك سامر (45 عامًا) قصته مع "الترا صوت"، وهو سائق على أحد خطوط ريف طرطوس، قائلًا إنه في عهد النظام السابق: "كان توزيع المحروقات يكفي لأذهب نقلتين أو ثلاث في أفضل الأحوال". أما الآن فيتمكن من القيام بخمس إلى سبع نقلات يوميًا. ويضيف: "منذ إصدار البطاقة الذكية، لم نر نحن السائقين الخير".

يعاني قطاع النقل في سوريا مشاكل متراكمة نتيجة سياسات النظام البائد لدرجة تجعل تحسين واقعه أمرًا صعبًا دون الحصول على دعم خارجي

ويؤكد العديد من سائقي السرافيس، لموقع "الترا صوت"، أنهم كانوا في عهد النظام البائد يتحايلون بشتى الطرق لكي يستطيعوا توفير جزء من مستحقاتهم من المازوت من أجل بيعه في السوق الحر، حيث كان ذلك أكثر ربحًا وأسهل. لكن الأمر أصبح أكثر صعوبة بعد تركيب نظام GPS على السرافيس. أما في الوضع الحالي، فلم يعد هناك حاجة لكل هذه الحيل، إذ باتت الأجور ونسبة الربح مرتفعة جدًا.

 

استحالة التنقل بين المحافظات

أما بالنسبة إلى النقل بين المحافظات، فقد بات أشبه بالمستحيل، إذ أصبح المسافر يحتاج إلى ما يقارب راتبه لتغطية أجرة النقل ليوم واحد فقط، حيث بلغت أجرة النقل بين طرطوس واللاذقية، عبر شركة القدموس للنقل، إلى 40 ألف ليرة، بعد أن كانت 8 آلاف، بينما وصلت أجرة النقل بين طرطوس ودمشق إلى 89 ألف ليرة، بعد أن كانت 26 ألفًا. ويشتكي طلاب الجامعات الذين يدرسون في خارج محافظاتهم من وضع المواصلات.

بالنسبة إلى النقل بين المحافظات، فقد بات أشبه بالمستحيل، إذ أصبح المسافر يحتاج إلى ما يقارب راتبه لتغطية أجرة النقل ليوم واحد فقط

يروي عليّ (21 عامًا)، من ريف طرطوس، لموقع "الترا صوت"، وهو طالب طب بشري سنة رابعة يدرس في جامعة اللاذقية، أن الذهاب إلى الجامعة مكلف وفيه مخاطرة، إذ إن الطرق بين المحافظات: "مليئة بالعصابات، ونحن بحاجة لتطمينات وتوفير الحماية". ويضيف عليّ: "حتى إذا قررت البقاء في السكن الجامعي خلال فترة الامتحانات فالوضع غير آمن، فقد أخبرني زملائي أن هناك غرف في السكن شهدت حالات سرقة".

وقد أكد خبراء محليون لـ"الترا صوت" أن قطاع النقل في سوريا مترهل ويعاني من مشاكل متراكمة نتيجة سياسات النظام البائد، لدرجة تجعل تحسين واقعه أمرًا صعبًا دون الحصول على دعم خارجي.