21-سبتمبر-2022
سيريال بودكاست

لا شيء في البودكاست يعنينا كثيرًا في حيّز النقاش العام عربيًا، وهو حكم قد يجادل كثيرون بأنه ينطبق على المنتج الصحفي والأدبي بمختلف أشكاله، في عالمنا الذي يعاني من شتّى أشكال الكبت والقمع، إلا أنّه ربما ينطبق على البودكاست أكثر، رغم الكثير من الهيصة التي تدور حوله مؤخرًا، وخنقه في أشكال حواريّة جامدة تعتمد على الصورة أكثر مما تعتمد على الصوت. 

البودكاست في أصله صنعة أمريكية، ذات استهلاك معولم تضمنه هيمنة اللغة الإنجليزية

البودكاست في أصله صنعة أمريكية، ذات استهلاك معولم تضمنه هيمنة اللغة الإنجليزية، والأمريكيون سمّيعون لو صحّ التعبير، منذ عهد الووكمان، مرورًا بفورة الآيبود في 2001، ووصولًا إلى ثورة البودكاست اليوم، وهي حقبة يكاد يتفق كثيرون على أنّها بلغت نقطة فارقةً عام 2014، حين صدرت سلسلة برنامج بودكاست بعنوان "Serial"، في اثنتي عشرة حلقة صحفيّة سرديّة مثيرة، عن سجينٍ أمريكي محكوم بالمؤبّد، ظلمًا.

سأتحدث أولًا عن هذا البرنامج، لأنه صار حديث العالم في الأيام الأخيرة، بمناسبة إخلاء سبيل السجين موضوع الموسم الأول منه، بعد سجنه 23 عامًا في ولاية ميريلاند الأمريكية.

 برنامج "سيريال" من تقديم سارة كينيغ، وهي صحفية أمريكية، قررت في العام 2013 العمل على تحقيق بودكاست استقصائي حول قضية عدنان سيد (يمكن الاطلاع على تفاصيلها وخطها الزمني في هذه التغطية على التراصوت)، وملابسات التحقيق والإدانة ومجريات المحاكمة التي خضع لها. وبما أنه أمريكي مسلم وغير أبيض، فلم يبد من غير الوارد في نظر الصحفية أن يكون ضحيّة تحيّز ضدّه في النظام العدلي الأمريكي. 

في سردتها الاستقصائية، أعادت كينيغ التحقيق في مقتل هاي مين لي، وهي طالبة ثانوية قتلت خنقًا عام 1999 في ولاية ميريلاند، واكتشفت جثتها في إحدى الحدائق في مدينة بالتيمور. عدنان سيد، هو زميلها وصديقها السابق، وقد أدت الأدلة الأولية إلى وضعه في قفص الاتهام ثم الإدانة، فحكم عليه وهو ابن 17 عامًا بالسجن مدى الحياة.

السجن الطويل لم يكسر عدنان، رغم أنه سلب منه سنوات شبابه، وظل يعيش على أمل تبرئة اسمه يومًا ما، إلا أنّه لم يتخيّل ولا في ذروة لحظات أمله أن يصبح فجأة نجم برنامج بودكاست، سيجعل من موضوع براءته شأنًا يهتمّ به ويتابعه ملايين الناس حول العالم. 

بودكاست "سيريال"، الذي وضع كينيغ على قائمة مجلة التايم لأهم 100 شخصية عام 2015، وغيّر مصير عدنان سيد إذ أخرجه من السجن الذي قبع فيه ظلمًا لربع قرن من عمره، هو البرنامج الذي كان له نصيب وافر في رسم حالة قطاع البودكاست الصحفي كما نعرفه بنماذجه الأشهر اليوم، ووضِعه على سكّة التحوّل السريع إلى واحد من أسرع القطاعات الصحفية نموًا في السنوات الماضية. كما وضع هذا البرنامج حدًا لحالة عدم اليقين بشأن شرعيّة البودكاست، بالمعنى الصحفي والثقافي، وجدواه كذلك على المستوى التجاري. (بلغت إيرادات إعلانات البودكاست في الولايات المتحدة 1.2 مليار دولار أمريكي في العام الماضي)

تلك الحالة التي خلقها بودكاست "سيريال" في موسمه الأول عن عدنان سيد، كانت بحسب تعبير أحدهم، "منعطفًا في تاريخ البودكاست وعلامة منفردة بلا منازع في ريادة التحوّل في هذا الوسط وإشهاره، إذ أطلق مرحلة جديدة من توسّع جماهير البودكاست وزيادة مستوى التنافس في إنتاجه". وعلى سبيل التوضيح، تجدر الإشارة مثلًا إلى أن بودكاست "سيريال" في موسمه الأول كان أول برنامج مسموع يسعى الناس للبحث عنه، وتنزيل حلقاته كاملة، والاستماع إليها دفعة واحدة، كما نفعل اليوم مثلًا مع مسلسلات نتفليكس، التي يزدرد أحدنا الموسم منها في جلسة طويلة واحدة في يوم خامل. قصة عدنان سيد على "سيريال" هي مسلسل البودكاست الأشهر على الإطلاق في تاريخ هذه الصناعة حتى اليوم. 

Adnan Syed

البودكاست، الطريق

"لا تقاس الطرق بغير الأغاني"، كما يقول الزميل رائد وحش في زاويته الأسبوعية. غير أنها قد تقاس بالبودكاست أيضًا. وهذا ما يفعله الأمريكيون، والسويديون أكثر من سواهم اليوم، ومن فئة الشباب تحديدًا، الذين يبدو أنهم يعوّضون تراجع القدرة على القراءة بالاستماع أكثر، ولاسيما في الأوقات الموات، والتي يدخل فيها وقت قيادة السيارة على الطرق السريعة أو استخدام المواصلات العامة للتنقل في المدن الكبيرة أو بينها.

هذا العامل، المتعلق بالتنقل اليومي بالسيارة أو غيرها، فرض بعض القواعد المعيارية في صناعة العديد من برامج البودكاست الإخبارية، (في الغارديان مثلًا أو الواشنطن بوست أو نيويورك تايمز) بالاعتماد على دراسات ترصد المعدّل الذي يستغرقه الجمهور المستهدف في التنقل اليومي. في الدول الاسكندنافية مثلًا، يعتمد تحديد طول برامج البودكاست على معدل وقت التنقل بالدراجات الهوائية، بحسب تقرير الأخبار الرقمية الصادر عن معهد رويترز.

إلا أن تقرير رويترز يتضمن إضاءات كاشفة أخرى، تدلّ على أن الاستماع إلى البودكاست في الدول التي تناولها التقرير (وليس من بينها دول عربية) ليس مجرّد وسيلة مواتية لاستغلال أوقات التنقّل والفراغ، بل سلوكًا مقصودًا ينمّ عن حاجة الناس للاستماع، لأغراض التعلّم والترفيه والوناسة، وفي مواضيع شتّى. ومما يدلّ على ذلك بشكل جليّ هو أن النسبة الأكبر من استهلاك برامج البودكاست تحصل في المنزل (64%)، مقارنة بنسب متفاوتة للاستماع في أوضاع أخرى، في السيارة مثلًا أو ركوب الحافلة أو الترام أو الدراجة الهوائية. ورغم أن ذلك لا يدلّ بالضرورة على نمط استماع واعٍ، إذ يمارس كثيرون هذه العادة الاستماعية على السرير أو أثناء تنظيف المنزل أو إعداد وتناول الطعام، إلا أنه يشير إلى حضور معتبر للبودكاست في حياة نسبة متزايدة من الناس، ولاسيما أن 25% فقط من المشاركين في استبيان رويترز ذكروا أنهم يستمعون للبودكاست لملء وقت فارغ.

البودكاست الجيّد، بسردته ولغته وموضوعه، يمنحنا فرصة لاعتلاء الشرفة ومراقبة زاوية من أنفسنا والعالم

البودكاست الجيّد، بسردته وموضوعه وإنتاجه وتوزيعه، يذكّرنا بالقوة التي ترتبط بالكلام، وهو في هذه الحالة الوسط الفريدة بين الكتابة والأثير. فالكلام في البودكاست لا يضيع ويفنى كما هي الحال في الراديو، ولا هو يثبت كما يحصل عند الانتقال الخطير من القول إلى الكتابة. وهذا تحديدًا ما نجح بودكاست "سيريال"، وبرامج أخرى على نسقه، في التنبّه إليه، إذ جرى تعظيم الاستفادة من هذه الحالة البرزخية بين القول والكتابة والتجاذب بينهما، والعناصر الأكثر جدوى في كلا هذين المستويين من التعبير والتواصل، واستغلال الطاقة القصوى للسرد وسلطته، لضمان إثارة اهتمام السامع حتى النهاية ومحاولة إقناعه بالعودة. صانعو البودكاست الناجح، يملكون الحكاية، ويملكون كلّ ما يهيئ لحكيها. 

هذا البودكاست، في حضوره وتأثيره، ما يزال من المفقودات العربية الكثيرة، التي ضاعت مثلما ضاعت حكايانا وأصواتنا في صحراء الاستبداد والقمع والتطرّف. 

دلالات: