10-نوفمبر-2022
لوحة حبر ياباني

لوحة يابانية قديمة

شعاعُ ضوء نحيل تحوّل إلى شمس غمرت بضوئها العالم. ذلك هو الهايكو الياباني، القصيدة/الومضة التي أغرت الآلاف من الشّعراء والطامحين، الموهوبين وغير الموهوبين، باستلهامها ومحاولة كشف أسرارها والنّسج على منوالها، حتّى أنّها صارت موضة واسعة الإنتشار ممّا أسهم في إضعاف هيبتها، وفرّغها من حكمتها العميقة، وشوّه الأثر العميق لها والتأثير الأعمق في ثقافة قارئها وتربية ذوقه الجمالي.

ثمة محاولات متناثرة، لترجمة ودراسة قصيدة الهايكو، عربيًا، منذ سبعينات القرن المنصرم، لكنها لم تؤسس لفهم واستلهام عميقين ومتواصلين لقصيدة الهايكو، يابانية المنشأ والروح والفلسفة

عربيًا، صارت تلك الموضة، للأسف، زيًا مهلهلًا يعلن عن نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي والميديا المتاحة بلا قراءة نقديّة جادّة أو دعوة أخلاقيّة، حتّى، للكفّ عن هذا الهذر المجاني الذي يغزونا وتحمينا من ضجيج المفرقعات اللغوية ودخانها.

ثمة محاولات متناثرة، لترجمة ودراسة قصيدة الهايكو، عربيًا، منذ سبعينات القرن المنصرم، لكنها لم تؤسس لفهم واستلهام عميقين ومتواصلين لقصيدة الهايكو، يابانية المنشأ والروح والفلسفة.

بالمقابل، لا بدّ من التّنويه بكتاب كينيث ياسودا، بترجمة ومقدّمة ممتازتين لمحمد الأسعد، عنوانه "واحدة بعد الأخرى تتفتح أزهار البرقوق" مع نصوص مختارة، وهو كتاب مرجع لا بد لكل شاعر ودارس وقارئ من قراءته بتأن وتبصّر.

هذا النّوع الشّعريّ وليد ثقافة يابانيّة، بكلّ ما تحويه من عناصر فلسفيّة وروحانيّة، لا تشبه أي ثقافة أخرى، وإن كان جوهر الشعر يكاد يكون هو نفسه عبر القارات.

صحيح أنّ للهايكو قوانينه الداخليّة/ التقنيّة، لكن ثمّة محاولات غربيّة جرت على وفق المدارس الحديثة كالتصويريّة والسّرياليّة، لكن الأصل يبقى هو الأكثر أصالة وتأثيرًا.

منذ المعلم الأبرز ماتسو باشا، ومن جاء من زملائه وتلاميذه، مرّت تجربة الهايكو بمراحل عدة حتى بلغت ما بلغته من تأثير ملحوظ على شعراء العالم بعيدًا عن شرقها المؤسّس (الأمريكي إزرا باوند حاول كتابة الهايكو)، وبذا صارت من تقاليد الشعريّة الكونيّة.

منذ مدّة صدر كتاب جديد بالإنكليزية للبروفيسور آدم أل كيرن، أستاذ اللسانيات والفنون البصرية، المتخصص بالأدب الياباني، عنوانه "كتاب بنغوين للهايكو".

كيرن، الخبير بقصيدة الهايكو، يشجب، أيضًا، ما تناثر من محاولات معاصرة لتقليد هذه القصيدة، بل يفنّد أيضًا ما عدّه بعض النقّاد الأجانب بأنها تعبير فولكلوريّ عن حياة الشعب الياباني وثقافته، مثل بساط حرير مزخرف، ويذهب أبعد من هذا ليصرح بأن قصيدة الهايكو هي جوهرة مذهب الزّن ورؤية البوذية، وخلاصة التراكم المعرفي للشعب الياباني الذي لا يمكن عزل ازدهار قصيدته عن ازدهاره الشامل في التكنولوجيا وتجلياتها الحداثوية في العصر الراهن.

طبعًا يكشف كيرن أهمّ مقومات قصيدة الهايكو وعناصرها الأساسية، أوزانها وقافيتها، وإيقاعها الناظم، وهذا ما غاب عن أغلب من قلّدها من العرب، خصوصًا مدّعي قصيدة النثر الّذين يتجاوزون، عن جهل، الوزن والقافية، لكنهم اعتمدوا في قراءاتهم المحدودة على ما ترجمه العرب من نصوص هايكو مترجمة أصلًا للإنكليزية، أو الفرنسية، أو غيرهما، أغلب من ترجمها باحثون أكاديميون لا شعراء، وأغلبيتنا تعرف كيف تفتقد الترجمة الأكاديمية للشعر ما تحت الظلال الخفية والأصداء الخافتة للنص الشعري والغموض المثير للتساؤل والتأويل في حياة القصيدة وكدحها التعبيري.

يشير كيرن في كتابه إلى اتساع تداول قصيدة الهايكو لتتحول إلى أغانٍ وأفلام كارتون، وتدخل في مناهج تعليم بعض المدارس وتقام لها "كورسات" وورش عمل في العديد من دول العالم خارج اليابان، لبلوغ درجة ما من فن كتابة الشعر.

في عالم اليوم، حيث تتقارب المسافات بين الشرق والغرب، في محاولة للفهم والتفاهم، يلعب الشعر دورًا كبيرًا وهو يتخطى السياسة والمصالح و"صراع الحضارات"، ومثلت قصيدة الهايكو أحد الاختراقات الكبرى في هذا الميدان بعد أن فرضت نفسها على أجندة الثقافة العالمية عبر كرتنا الصغيرة.