16-ديسمبر-2020

لوحة لـ أنسليم كييفر/ ألمانيا

شبحٌ معتمٌ في المدينةِ

يخلصُ نفسهُ من الرمق الأخير

من عبء الخطايا

من وردةٍ تلهو في الصقيع

ولا تستجيب

من حاضرٍ ينتحبُ في صدرهِ المفتوح

مثل عصفور جريح

من تعبِ المسير

من واقعٍ لا يُستساغ

من روثِ الغياب

من بقايا امرأة تبرزُ في وجهه

مثل لسعةِ نحلة

 

يمشي الهوينى على قبورٍ شامخة

مثل أثداءٍ مدببة

والريحُ الشمالية تتلكع في سيرها

كطفلةٍ خائفة

لا لُغةً تُشكّلهُ

يُشكّلهُ الحريق

لا بلدةً تدافع عنه

لا أحد

وفيما يُربي

سرائرهُ في وجهِ اللظى

الضوضاء تعلو

والسيرُ يسير

 

يمشي في الشوارع دون مأوى

دون قصدٍ دون جدوى

يستقبل أسرابًا من الصفعات

وأطنانًا من الأنّات الحزينة

لا غايةً تصطفي يُمناه

من بينِ أحشاء القيامةِ

ولا سريرَ يصدحُ في غيابه

يخاف أن يخاف

أن يقطعَ الطُرقات

ويقطعهُ الأثير

 

لا شيء هُنا

سوى فروجٍ تُفتت بالمطارق

وحاويات تغصُ بالرذائل

وأفواه تُحشى بالخيبات

ومنازل تفوح برائحة الأدوية

 وأعراضَ الموت

 

لا شيء هنا

سوى غيوم حزينة

تغفو فوق التلال

وأذرع لا تعمل

ومدافع تحرس الحروب بأعناقها

وقط أشقر اللون

يموءُ بين المنازل

باحثًا عن نأمة

ويستريح تحت الكراسي

إذا ما غادرهُ الحنين

 

لا شيء هنا

سوى طريق يبكي

كعاشقٍ يبحث عن أنثاه

في الأحياءِ الحزينة

وبين أضلع الحياة

وفي مناقير الكلمات

 

لا شيء هُنا

سوى قمر خائف

وأشجار لا تزأر إذا وَثبَ المساء

ومصابيح تزقرق فوق أغصانِ الظلمات

وظلال تغيب بمسرةٍ، مبشقةٍ

خلف نهدٍ أو حجر

 

يا ربّ الجوعِ والعطش

يا أبَ الكلمات وواهبها الأبكم

يا وجهًا يتجشأ الذكرى

ويسعلُ كالسحالي في الزقاق

أعْطِهِ سيجارةً لا تنتهي

وروحًا غيرَ معطوبة

وفرحًا مُتاح

أعْطِهِ

سفرًا مُكتملًا

وغانيةً تموءُ في حُجرةِ قلبهِ

كقطةٍ لحوحة

واجعل في يُمناه

مُدنًا وسواقيًا وغيومًا

 

أيها المنسيّ في الضواحي

كأغاني الغجر

يا أزرقي العلويّ

الباسط ذراعيهِ

 مثل نهدٍ عتيق

أعْطِهِ معنىً

ولغةً

وباخرة

 

أعْطِهِ

وجعًا أقلّ

وجسدًا لا يضل

أعْطِهِ

إشارةً وبِشارةً

كي يضيء

أعْطِهِ

وأولَهُ الظافر

وآخرهُ الشريد

وأنقش في عينيهِ المريضتين

 بالحضور الضحل

والغيابِ الوابل

حقولًا

وأنهارًا

وبحورًا

 

اعطه سوسنةً وقافلةً

ليعبر الصحراء

وينحني في شُرفةٍ

تطل على المنافي والسهول

واعطه قلبًا جديدًا

لا يحترق

فقلبهُ يشتعلُ في جُنحِ الظلام

كما تشتعلُ العظامُ في يومِ القيامة

والقيامة في العظام

ولو لم تمسسهُ نار

 

كم ستقولهُ الغزوات

كم ستصرعه المسافات

كم ستتناولهُ الألسنة العمياء

كم سيضحك

كم سيبكي

كم سيغدو فُتات

وكم..

كم ستجرحهُ الطُرقات

بأصوات الفرحين

 

أيها الموت

كن معهُ

وألقه

بحجارةٍ

من رحيل

واستثير عتمتهُ المضاءة

في الأحشاء

وغربتهُ التي تمضي في الديار

ليستقر

كرصاصةٍ في القلب

على خشبِ الغياب

 

يترنحُ في المدينة

كصيادٍ في سفينة

ويطوي الآن قلبًا

لا ينفرد بغير الموت

يشهقُ..

سائرًا إلى حتفهِ الوضاح

بلا رجفةٍ

بلا أُمنية

بأقدامٍ تتقفى أثر

الغائبين بلا ميعاد

وعينين قابضتين

على مشاهدٍ

تتدحرجُ على عُشب الطفولة

 

أيتها الهارِبة بلا ميعاد

قولي للموت

قولي لهُ: غِب قليلًا

فحبيبي يريد أن ينام

يا قمحُهُ الأسمر

اغيثيهِ

ولو بقطرة ماءٍ

من شفتيك

وأعيديهِ إليهِ

قبل أن

تخطفه المنون

مثل تفاحةٍ

تتمزقُ بالسكاكين والأنياب

دون أن يبكي عليها أحد

 

يا كل ما يبغيه

يا وجعًا يحكهُ تحت الأظافر

ويسافر في نهديه

أعينيه على بلواه

وأزيلي العتمة

من باطنه

وأنيرِ دربهُ

ولو بمصباحٍ شحيح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تضحك كثيرًا كلما تعرّضتْ للضرب

تفاحة آدم