26-فبراير-2019

نجيب محفوظ (1911 - 2004)

بامرأةٍ مصرّة على ما تريده، ودون أن تخطو خطوة واحدة إلى الخلف، أو تعود عن مطلبها، متحدّيةً رجلًا ومن بعده شيخ مسجد، يفتتح الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ (1911 - 2004) أبواب "الحارة" للقارئ. وبامرأةٍ أخرى مصرّة على ما تريده أيضًا، متحديةً أبًا وإخوة ومجتمعًا وعادات وتقاليد، متمرّدة ورافضة، يُغلق محفوظ أبواب هذه "الحارة" الممتدّة على 144 صفحة تحت عنوان "همس النجوم" (دار الساقي، 2019)، إعداد وتقديم الصحفي المصري محمد شعير. وبين الباب الأوّل والأخير، تمضي حياة جمعٍ من البشر بحذر وتوجّس، مُحاطين بما لا يبشّر بخير، ويتّسمون جميعًا بالرفض والاحتجاج، ويتطوّرون ضمن هذا الحيّز المكاني/الحارة، فهناك من يصعد إلى الذروة لا لسببٍ سوى أن يعود إلى الحضيض.

لا يعثر قارئ قصص "همس النجوم" على ما يثير الدهشة أو الفضول، ولا يقف إزاء كتابة لنجيب محفوظ

من الجيد أن نشير أوّلًا إلى ما يُقال عن المجموعة، فثمّة من توقّع أن يقف إزاء مضمونٍ مشابه لتجارب قصصية سابقة لمحفوظ، كأن يقرأ مثلًا قصصًا تُشبه ما ورد في شهر العسل، أو فتوة العطوف، أو ربّما، وبصورةٍ خاصّة، همس الجنون، بفعل التشابه الحاصل بين العنوانين. لكنّ الواقع عكس التوقّعات، والقارئ لا يعثر في القصص على ما يثير الدهشة أو الفضول، ولا يقف إزاء كتابة مبهرة للراحل الحاصل على نوبل للأدب. محفوظ، وكما يتبدّى للقارئ، كتب هذه القصص لمجرّد فعل وممارسة الكتابة لا أكثر. نُفسّر ممّا سبق ربّما عزوفه عن نشر القصص في كتابٍ واحد، وبقاءها لفترةٍ طويلة بمعزلٍ عن خططه لجهة النشر، في كتابٍ واحد. كأنّ هذه القصص في مكانٍ ما تخصّه وحده. وكأنّ نشرها في عددٍ من المجلّات والصحف، باستثناء قصّة واحدة، أمرٌ كافٍ لمن ألّف "ثرثرة فوق النيل".

اقرأ/ي أيضًا: مناقشة وتوقيع كتاب "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرّمة"

لا رهان يفوق التوقّعات على المجموعة إذًا. ومن المؤكّد أنّها لم تُطبع أو تُنشر باعتبار أنّها الأجمل بين أعمال محفوظ. فالسياق، سياق النشر، كان منذ اللحظات الأولى للإعلان عن اقتراب صدور المجموعة واضحًا وصريحًا، وتمثّل في إعادة إحياء الراحل بنشر ما هو غير منشور. والدعوة أيضًا إلى إعادة القراءة بقصد اكتشاف شكل وصورة الحارة وحكايات السكّان في مجموعاته القصصية الأخرى. من المفيد معرفة أنّ لا رهان يدور حول مجموعة محفوظ هذه، لا سيما لمن يجلد الأخير بعد القراءة، ويحتجّ كأن الراحل خذله، دون الأخذ بعين الاعتبار أنّ قصص مؤلّف "الثلاثية" هذه كُتبت في زمنٍ مضى، وأنّه من الضروري قراءة القصص في سياقها الزمني. فلو أنّ المجموعة نُشرت في زمن كتابة القصص، لما قُرأت الآن إلّا بناءً على ما سبق. وكان محفوظ وفّر على هؤلاء توقعّات أن ينهض من قبره ويكتب قصصًا تتماشى مع واقع الكتابة الراهن. وما يتّضح لأي متابعٍ لعمليات الجلد والتشهير لمجموعة "همس النجوم"، هو أنّ هؤلاء يتعاملون مع محفوظ باعتباره الحائز على نوبل، وصاحب "أولاد حارتنا" فقط، لا ككاتبٍ من الطبيعي أن تتفاوت قصصه، ككل القصص، لجهة الجودة.

القصص لا تبدو في هذه المجموعة بثقل قصصٍ أخرى في مجموعاتٍ سابقة، ولكنّها تحملُ شيئًا من نجيب محفوظ، أو تحمل، بصورةٍ أدق، أشياء تتناسل من العمل دون تخطيطٍ مسبق. هناك الحارة أوّلًا، المكان الذي لا يُفارق أعمال مؤلّف "الخرافيش". وإلى جوار الحارة، هناك الفهم النافذ والعميق للواقع، والقدرة على النفاذ إلى جوهر الظاهر. الحارة تكاد تكون في هذه المجموعة شكلًا أقرب إلى المتاهة، فما نراه أنّ الفرد يعيش نوعًا من الاضطّراب فيها، ينمّ عن ضياعٍ وفقدان للاتّجاه الصحيح، والسير في المنعطفات الحادّة التي تقود إلى الجنون.

نُشرت قصص "همس النجوم" مع أن نجيب محفوظ عكف عن نشرها

هناك أيضًا الحصن القديم المسكون بعفاريتٍ تزعزع استقرار الحارة بين فترةٍ وأخرى، تزامنًا مع السؤال المستمرّ عمّا إذا كانت موجودة أو لا.

اقرأ/ي أيضًا: كيف رصد نجيب محفوظ أزمات الرجولة في ثلاثيته؟

نقرأ عن رجل شبه متسوّل، دون قيمة أو شأن، يقوده القدر لأن يصبح عند سكّان الحارة من أهل الكرامات وأولئك الذين يحملون أشياء لله، بعد أن أنقذ شيخًا عجوزًا من حجرٍ كادت تسقط فوق رأسه، دون قصد. فأمرُ عربةٍ كادت أن تدهس قطةً بالرجوع، أعادت الشيخ بضع خطواتٍ إلى الوراء. المتسوّل ذاته يدخل في صراعٍ مع أحد كبار الحارة بعد أن يكتشف أنّ على الأخير أموالًا من الضروري أن يسدّدها لأصحابها، فيحصل ما كان من غير المتوقّع أن يحصل. نقرأ أيضًا عن رجلٍ آخر يتمكّن من معرفة الغيب وقراءة المستقبل، فيلتف أهل الحارة من حوله، ليأخذ مكان شيخ الحارة والزاوية، قبل أن يُجرّ العرّاف إلى المصحّة العقلية. في قصّةٍ أخرى، تتحوّل قراءة المستقبل إلى فعلٍ يدفع للسخرية، فنبوءة "المجذوب نملة" بأن الحكّام سيقبلون على المتسوّل "حرق" تتحقّق، إذ يُقبل عدد من المسؤولين على جثّة المتسوّل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اعترافات نجيب محفوظ في حوار مجهول

البرلمان المصري: نجيب محفوظ خادش للحياء أيضًا!