29-مايو-2020

الكاتب المصري مصطفى سليم

تناقش مجموعة "نفق سري" القصصية للكاتب المصري مصطفى سليم عددًا من الإشكاليات النفسية داخل شخصيات النصوص، اعتمدت على عدد من المحاور يمكن إجمالها في تيمات كالظلال؛ مستودع المخاوف والظلمات. ومحاولة الإيهام بأعراض الذُّهان التي يَسقط فيها الرابط بين الواقع والخيال في الأحداث. وانعكاس هذا وذاك على حالة الشتات التي تصيب البطل أو الراوي داخل نصوص المجموعة.

الظل هو مستودع المخاوف والظلمات، هو البئر العميقة للعفاريت والسحرة والوحوش، هو ميدان الأساطير

أسهمت أيضًا "حالة الإدراك والوعي" بتفاصيل العالم الغارق في حالة الضباب أو غياب الرؤية في تكوين رؤية فلسفية لدى الراوي، التي سرَّبها من خلال أقنعة السرد المتخفية وراء النصوص. تمثلت في احترافه الخيال المجسد للواقع المتورط بشكل من أشكاله في العدمية. بالإضافة إلى توظيف الحُلم كمهربٍ من حالة الضبابية هذه، وهي الصورة التي استدعت بدورها لعبة "اللغة والرمز" كمدخل لعوالم تتصارع ما بين السادية مرة والمازوخية أخرى، فجاءت النتيجة بقرار الانفصال عن الذات أو الواقع، والفرار منهما في نهاية المطاف إلى المرأة، كمهرب جمالي من قبح الاضطرابات النفسية التي تسود العالم، وهو ما يُوقع القارئ في حيرة؛ هل هي نصوص من وحي الخيال أم جزء من سيرة ذاتية للكاتب؟ أم تداعيات لمشاهد وتأملات خاصة؟

اقرأ/ي أيضًا: بينَ مدّ الكاتب وجزر ناقده

الظلال وبئر الأساطير

الظل هو مستودع المخاوف والظلمات، هو البئر العميقة للعفاريت والسحرة والوحوش، هو ميدان الأساطير؛ ابنها وأبوها في الآن ذاته. يقول عنه عالم النفس السويسري كارل يونج: "إن الظل هو المدخل الرئيسي والأهم إلى اللا شعور الإنساني"، وهو ما نجد صداه مجسدًا في المخاوف والكوابيس التي تدور في حكايات "نفق سري"، وتتصارع داخل النصوص لتنتقم وتدمر المغضوب عليهم، وتنتصر بممارسة حرية الرغبات المكبوتة وقتما يشاء أصحابها وكيفما يشاؤون. وهو ما يعني أن "الظل" لم يعد داخل النصوص مجرد بئر سحيقة تُحبس بها المخاوف فحسب، بقدر ما هو مكون إنساني أصيل يستحق التأمل والوقوف أمامه طويلًا.

تظهر الظلال داخل حكايات المجموعة في أكثر من صورة، تنوعت ما بين الظل المقهور والمنتصر في الآن ذاته داخل لعبة الأوهام "لعبة الحياة". يتجسد هذا على سبيل المثال في المشهد المرسوم بدقة بين "الصرصار والنملة" في قصة "داخل الكادر"، الذي يحقّق فيه الأول انتصارًا لحظيًا ووهميًا على الأخيرة، لم يجن منه سوى الاستعراض الفارغ من أي معنى. انتصار لم يكن له هدف في حد ذاته بقدر ما كان تفريغًا لضغط الهزيمة والكبت بداخله، ومحاولة لتجريب شعور "السيد المُستعبِد" الأشد قوة بالطبع، والذي لم يجد الطرفُ الضعيفُ في المعادلة مهربًا من سطوته إلا بالتماهي والتوحد مع أفعاله، بل يتجاوز هذا السلوك المضطرب بتمثل وتمرس هذه الأفعال مع الأقل شأنًا منه في دوائر القهر المَرضية هذه، على الكراهية الشديدة للمستضعف لهذا الفعل، الواقع تحت ضغوطه بالأساس. بينما الحقيقة النسبية التي يقرها النص خرجت على شكل مجموعة من التساؤلات كان مفادها؛ في أي قضية انتصر؟ وعلى مَن؟ وما المكاسب التي حققها من وراء انتصاره المزعوم هذا؟.

تخلو قصص "نفق سردي" من فكرة الانتصار الذي يعده الكاتب سرابًا كبيرًا وسط حياة صاخبة لا معنى لها

على هذا المنوال تتحرك دوائر الظل والقهر داخل الحكايات، فطِوال المجموعة تخلو النصوص من فكرة الانتصار الذي يعده الكاتب سرابًا كبيرًا وسط حياة صاخبة لا معنى لها، وعليه فإن المنتصرين، وفقًا للنصوص، مجرد عبيد يحرثون في البحر ويتصارعون على التقاط الجيف منه، ولو أن هناك منتصرًا داخل المجموعة فسنجده ممثلًا في الحياة، باعتبارها رمزًا خاليًا من المعنى، وعليه لا قيمة لتحقيق معادلة صفرية هي والعدم سواء.

اقرأ/ي أيضًا: هل عَضّت الرواية لسانها؟

الذهان

هذا العَرض المرضي في أبسط تعريفاته هو فقدان صاحبه الخط الفاصل بين الواقع والخيال، في هذه المجموعة يقع القارئ كثيرًا تحت حيرة هل هي من وحي خيال الكاتب بحق؟ أم أنها جزء من سيرة ذاتية؟ أو مواقف عايشها ووقع تحت تأثيرها واختزلها عقله فخرجت على هذا النحو؛ فالمشاهد قصيرة ومكثفة في ومضات أشبه بفلاش سريع يجسد حالة، تُربك القارئ وتُـدخله إلى الكادر سريعًا، وما إنْ يستوقفه المشهد أو الحالة، سرعان ما يجد نفسه وقد انتقل إلى آخرَ كشريط سينمائي شديد الحبكة والصنع. الأمر الذي يصفه الكاتب في اقتباس جاء فيه "كأن ثقبًا أصاب الذاكرة، فتسربت الذكريات منها".

إذًا هي فراغاتٌ وحُفرٌ بالذاكرة، تتساقط منها الأحداث عبر ممارسة الحكي، تؤدي بدورها إلى تشتيت الراوي أو البطل وإعادة توزيعه على مساحة الحدث، تُدخله في حالة أشبه بالذُّهان واختلاط الأمر على الراوي، فحضور الذات الواعية وتجسيد المشاهد على هذا النحو العميق ينفي عنها السقوط في فخ التداخل ما بين الواقع والمتخيل والمعروف بـ"الذُّهان"، ويقربها إلى كونها حيلة دفاعية أمام الأمواج العاتية والمخيفة في بحر الحياة.

أقنعة الواقع تحت حيل الخيال

الرؤية التي قدمتها مجموعة الحكايات عن الحياة قاسية للغاية. هي أقرب للواقعية منها إلى الخيال وإن تخفت بداخل عباءة السيريالية أو غيرها، لكن الدلالات واضحة لا لبس فيها؛ لذا يلجأ الراوي داخل النصوص على نحو ما أشرنا إلى التخييل كمهرب، بمحض إرادته، ومع استغراق الخيال له والإحاطة بالذات، ينسى الأبطال أن ما يجري مجرد خيال أحيانًا، يمتلك أصحابها رفاهية الدخول إليه، وإن لم يكن بإمكانهم الخروج منه. وتظل ديمومة الشك التي يطرحها الراوي طِوال الطريق ومحاولة التحقق مما هو حقيقي منها أو متخيل طوق النجاة من الوقوع في عرض الذُّهان المرضي. بعبارة أخرى، إدراك الراوي وقدرته على "وعي الوعي" أو "التفكير في التفكير ذاته" هي سبيل النجاة من الوقوع في غواية الخيال والانتشاء داخل الاضطراب النفسي للذُّهان، دون حول ولا قوة لصاحبه، لتتحول معه هذه النصوص إلى آلية دفاعية، آلية "الانفصال"، سواء كان عن الذات أو الواقع.

الحلم

أحلام الأبطال المجهولين لم تكن تحت سيطرتهم على طول الخط الدرامي لحكايات "نفق سري"، فأحيانًا كانت تأتي بمحض إرادتهم، وأخرى كانت تأتيهم تحت ضغط الجبر، فبينما كانت مهربًا للذات الواعية مرة، فإنها تفقد السيطرة في الأخرى، وتتحول إلى كابوس ليس لدى الأبطال حيلة للخروج منه سوى بالصرخة التي توقظ الذهن، ولولاها لماتوا تحت وقع العصف الذهني الذي يحرث في طبقات مخيفة من الحلم أو الكابوس. الأمر يشبه هنا متعاطي أدوية المخدِّرات المهلوسة؛ أحيانًا تُلقي بها في خيالات سعيدة ومبهجة، فينتشي. وحين يكرر الأمر يرى أمامه وحوشًا تهاجمه، وعناكب تحت جلده. ببساطة يدخل في فيلم رعب لا يُحسد عليه.

الحلم داخل حكايات "نفق سري" يشبه أمر التعاطي هذا، فهو حيلة، بإمكان الراوي عبره أن يميز بسهولة أنه خيال محض، خصوصًا مع ضبابية الواقع الجاثم على الصدور. باختصار لم تكن تقنية الحلم داخل نصوص المجموعة إشباعًا للرغبات فقط، فأحيانًا كانت تجسيدًا لمجموع إحباطات البطل. وكأن كل ما استطاع البطل نسيانه بحكم الأمر الواقع، أو بمرور الزمن، يترك فراغات في الذاكرة، ليأتي الحلم ويسد هذه الفراغات، ويظل الصراع داخل الذاكرة بين قوة الزمن والقهر المكبوت، ليتجسد فعل الكبت في نهاية المطاف عبر هذه الأحلام بشقيها الممتع والمرعب وفقًا لمعطيات الحلم أو الكابوس.

الجدّ صوت الحكمة

شخصية الجد شخصية محورية في النَص، فالجد هو صوت الحكمة الذي يحاول أن يجد منطقًا ومبررًا لما يقع من أحداث في عالم موازٍ، لكنه صوت مهزوز ومقهور أيضًا. يظهر كحيلة دفاعية للراوي يحاول من خلالها الوقوف على الحد الفاصل بين الخيال والواقع، كي لا تنفرط عُقدة الحدث، فيصير هذياناً لا قيمة له.

وعلى الرغم من أن صوت الجد، المتمثل في الحِكم المتواترة على لسانه داخل النصوص، يستقبله الراوي بشيء من التمرد، فإنه يجد صدى بداخله، لشعوره بوقوف الجد في صفه، بينما الحقيقة أن موقف الجد المغلوب على أمره يتشابه كثيرًا في تفاصيله معه، ما يسمح بمساحة من التسامح والتعاطف بينهما. فالراوي بالأساس ما هو إلا جزء من الجدّ الممثل للنظام الرمزي؛ أي بنية القانون والتشريع داخل الراوي التي تكونت من شخوص عديدة مرت بحياته، خصوصًا زمن الطفولة، التي جسدت بالطبع دور "الآخر الكبير"، واختزلها بالذات الواعية في "أكواد برمجة"، تصبح فيما بعد بوصلة من الأشخاص وإنْ كانت بلا وجوه. كانت بدورها ابنة شرعية للغة نفسها، التي يصفها علماء النفس بـ"أم اللا شعور، وجُمّاع السالفين"، بعبارة أخرى هي "الآخر الكبير".

السادية والمازوخية

لم يكن للتصور القاسي للحياة الواقعية داخل "نفق سري" من مَخرجٍ درامي ونفسي سوى بتجسيد الصراع القائم بين أعراض السادية والمازوخية (الماسوشي) داخل النصوص، ونقصده هنا بالمعنى النفسي لا الجنسي. فبما أن اللاشعور داخل الحكايات مبنيٌّ بالأساس على اللغة، فعمليات اللغة داخل العقل أنتجت صورًا تجسد أعراض الصراع القائم بين الإيذاء النفسي للذات وللغير، وهي حيل في حد ذاتها حلٌّ ومهربٌ نفسيٌ، تخفف من وطأة الإيذاء النفسي على الذاكرة، تمامًا كما كان الحلم واستدعاء الجدّ. فأعراض السادية داخل النصوص قد لا تخلو من نقيضتها المازوخية، والعكس، إذ كثيرًا ما تتبادل هذه وتلك الأدوار بينهما، ما يعقِّد حبكة الصراع، ويضيف إليها ثراء إنسانيًا ونفسيًا انعكس داخل النصوص، فهما بدون بعضهما لا قيمة لهما.

الحلم داخل حكايات "نفق سري" يشبه أمر التعاطي هذا، فهو حيلة، بإمكان الراوي عبره أن يميز بسهولة أنه خيال محض، خصوصًا مع ضبابية الواقع الجاثم على الصدور

ورغم أن أعراض هذه الاضطراب السلوكي جنسية بالأساس، فإن نصوص المجموعة استخلصت منهما الرمز، فنجد السادي يتجسد داخل النصوص مُمثلًا في صاحب السلطة، أو الكلمة، أو الدال الموجب، بينما المازوخي يمثله الخاضع والطائع والدال السالب والمَخصي رمزيًا. وتعكس النصوص أيضًا ديناميكية توليد "الخِصاء النفسي" للذة مازوخية، ينتج عنها خِزيًا وغيرة وحقدًا وحسدًا وغضبًا وانتقامًا، والشعوران الأخيران (الغضب والانتقام) يولِّدان بدورهما النزعة السادية، التي يعقبها أيضًا الذنب والخزي، وهما ما يغذيان المازوخية بدورهما، وهكذا تدور نصوص المجموعة في دوائر من القهر لا تنتهي؛ لتكشف عن سراب الحياة في الذاكرة المثقوبة بعد الوقوف أمامها طويلًا، وتجسيد مشاهدها على هذا النحو السيريالي.

اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون في قصائد "كما في السماء".. صورة عراق يتلاشى

وختامًا تظهر المرأة، على ضيق مساحتها في مجمل النصوص، لتفك شفرة هذا الصراع، وتصير في لعبة الحياة سفينة النجاة وسط أمواجها المتلاطمة بصراعاتها غير العادلة، وأزماتها الوجودية العنيفة داخل الراوي، لتحل كثيرًا منها، وتدخل في وعاء البناء اللغوي داخل المجموعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النجاة بالكتابة.. هكذا فعل ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي في العزل القسري

أدباء جرّدوا من جنسياتهم