04-يونيو-2016

طموح العشرات من المساجين الذين اجتازوا امتحانات شهادة البكالوريا كبير جدًا(Getty)

"قبل خمس سنوات، كنت شابًا محبًا للحياة، خالطت الكثيرين وتعرفت على شباب آخرين، استهواني المال والبحث عن الكسب السريع ولم لا الثراء، وتحولت الأحلام إلى طيش شباب لا يحمد عقباه، تركت مقاعد الدراسة، اتبعت التسكع ليلًا وتناول المشروبات الكحولية وتعاطي مختلف أنواع المخدرات وأشياء أخرى قادتني لمسرح جريمة قتل راح ضحيتها أحد أبناء الأثرياء في منطقتي"، كانت هذه قصة محمد، 29 سنة، يقبع في سجن "الحراش" بالعاصمة الجزائرية.

كشفت وزارة التربية الجزائرية ترشح 3257 من المساجين لنيل شهادة البكالوريا، هذه السنة، عبر 40 مؤسسة عقابية في الجزائر من بينهم 100 امرأة

ومحمد متفائل الآن بالعودة إلى "الطريق الصحيح" بعدما حوكم بتهم المشاركة في القتل وتعاطي والمتاجرة بالمخدرات رفقة صديقين له، في البداية لم يكن له أي هدف داخل السجن، والظروف المتاحة للتعليم داخل السجن جعلته يستفيق من الكابوس كما يصفه لـ"الترا صوت"، وهو اليوم يجتاز امتحانات شهادة البكالوريا في رحلة البحث عن هدف يعيش لأجله وينسيه الماضي الأليم.

اقرأ/ي أيضًا: فضيحة التسريبات تهز امتحان البكالوريا في الجزائر

خطوة أولى نحو الفرج

الجامعة هي أهم هدف لدى محمد، ويضيف: "لا يهمني اليوم سوى إتمام الدراسة والابتعاد نهائيًا عن عالم الانحراف الذي دخلته وعمري لم يتجاوز 16 سنة"، اليوم طموحه أن يكمل تعليمه بعدما أتيحت له الفرصة مرة ثانية داخل السجن حيث كان يدرس رفقة النزلاء في الصف التعليمي الذي سطرته إدارة السجن، كما أنه بات مولعًا بالقراءة ومتابعة الأخبار عبر التلفزيون وأحيانًا يقتنص جريدة أو اثنين لقراءتهما قصد تحسين لغته وتحسين أدائه أيضًا.

يروي محمد لـ"الترا صوت" أنه "كان يعاني كثيرًا خلف القضبان، الحرية لا ثمن لها، ورؤية ضوء الشمس والشوارع له طعم آخر"، ويوضح: "نحن لا نشعر بقيمة الأشياء حتى نضيعها". حلم هذا الشاب أن يعود للمجتمع من باب التعليم، خصوصًا وأنه دخل عالم المخدرات لأسباب أسرية، حيث دفعه الفقر والجوع للبحث عن مخرج بعد أن فقد والده وتزوجت والدته من رجل آخر، حسب روايته.

بات يبحث عن المال وترك مقاعد الدراسة وجرى وراء الربح السريع بأي طريقة والنتيجة هي القبض عليه بجريمة المشاركة في قتل أحد الأشخاص ومتلبسًا بحوزته كمية من المخدرات فضلاً عن سوابق أخرى كاستعمال أسلحة بيضاء، والحكم عليه ثلاث مرات بالسجن، لتتحول الأحكام إلى عشرين سنة كاملة، قضى منها خمس سنوات في انتظار تخفيف الحكم بفضل حسن السلوك والسماح له بالدراسة في الجامعة إن تخطى شهادة البكالوريا بنجاح.

البكالوريا تعوض ظلام الزنزانة

قصة أخرى بطلتها سميرة ذات الـ32 سنة، هي الأخرى ضحية، حسب تعبيرها لـ"الترا صوت". اليوم، تأمل سميرة أن تتخطى عتبة البكالوريا، في البداية فكرة الدراسة كانت غريبة بالنسبة لها، كثيرات من أمثالها في الزنزانة بالسجن كن يتهكمن عليها وعلى رغبتها أن تصبح ممرضة، مثقفة وحاصلة على شهادة جامعية، لكنها كانت متمسكة بخيط أمل واحد وهو أن تتابع الدراسة رغم كل شيء. هي القادمة من مدينة "وادي الفضة" بمحافظة "الشلف"، غرب العاصمة الجزائرية، تجد نفسها عقب زواج قسري وهروب من بيت العائلة تعيش حياة المتشردين وتنخرط مع مجموعة من المنحرفات وتجار الجسد "الدعارة"، اليوم تأمل أن تنجح في اختبار البكالوريا وأن تعود إلى الانخراط في المجتمع تدريجيًا.

تقول وهي متفائلة: "نعم صرت أخجل من نفسي، وصرت أخاف أن أخرج إلى ضوء الشوارع، لكن من منا لا يخطئ، الله يغفر كل الأخطاء"، تردد ذلك وهي تنظر إلى الساعة في يدها، لم يتبق من الوقت الكثير لإجراء امتحان الفلسفة، وتضيف: "مادة لم أكن أحبها لكن في السجن تعلمت من أساتذتي الكثير بفضل المقررات الدراسية ومن خلال تجارب الحياة".

في سن الخمسين، وبعد عقوبة ربع قرن من الزمن، لم يتردد السعيد في إكمال دراسته من الابتدائي إلى الثالثة ثانوي، "وراء القضبان كل شيء موجود، إن كانت هناك إرادة فقط، يمكن أن نتجاوز الصعوبات والآلام والأخطاء وربما الذنوب"، هكذا يصرح لـ"الترا صوت". السعيد وغيره من المحكومين بأقصى العقوبات كانوا يذاكرون معه، ويساعدونه على الحفظ ومتابعة الدروس لأنه فقد كل شيء خارج السجن، فقد المال والأبناء والأسرة أيضًا، وها هو اليوم يعيد الكرة لاجتياز البكالوريا للمرة الثانية بهدف العودة بروح قوية بعد انقضاء فترة عقوبته، هذا ما قاله لـ"الترا صوت".

اقرأ/ي أيضًا: الامتحانات.. حالة طوارئ في بيوت الجزائريين

أساتذة ونفسانيون لتعليم السجناء

استفاد المساجين في 40 مؤسسة عقابية في الجزائر من الدروس التي تلقوها من طرف 720 أستاذًا علاوة على مختلف الحصص الخاصة بالتحضير النفسي

استفاد المساجين في 40 مؤسسة عقابية في الجزائر من الدروس التي تلقوها من طرف 720 أستاذًا علاوة على مختلف الحصص الخاصة بالتحضير النفسي، التي أشرف عليها أخصائيون نفسانيون تابعون لإدارة السجون، والتي تقوم دوريًا بإجراءات تعليمية وتثقيفية لفائدة المساجين المتعلمين، بهدف تقويم سلوك المنحرفين وتمكينهم من الاندماج في المجتمع بعد انقضاء فترة عقوبتهم.

طموح العشرات من المساجين الذين اجتازوا امتحانات شهادة البكالوريا كبير جدًا، يأملون في تخطي عتبة الشهادة والعودة إلى جادة الصواب وحضن المجتمع مجددًا بعد أن ذاقوا مرارة التجارب القاسية، أبواب الدراسة وراء القضبان الحديدية ملاذ الكثيرين، حيث كشفت إحصائية وزارة التربية الجزائرية ترشح 3257 من المساجين لنيل شهادة البكالوريا، هذه السنة، عبر 40 مؤسسة عقابية في الجزائر من بينهم 100 امرأة، وهي امتحانات تسهر عليها وزارة العدل الجزائرية بالتنسيق مع الديوان الجزائري للامتحانات والمسابقات.

وبحسب قوانين المؤسسات العقابية، تمكن هذه المؤسسات الناجحين في شهادة البكالوريا من مزاولة دراستهم في المعاهد العليا في الفترة الصباحية والعودة للسجن مساءً، ورغم أنها "حرية منقوصة أو نصف حرية إلا أن القليل منها أفضل من لا شيء"، كما وصفها السجناء لـ"الترا صوت" وربما القادم سيكون أفضل بالنسبة لهم. تقول الأخصائية النفسية عقيلة لعرابة لـ"الترا صوت": "رغم أن آثار الجريمة تبقى لصيقة بالجناة لكن العفو ممكن إن أصر هؤلاء المساجين على تجاوز الصعوبات".

اقرأ/ي أيضًا:

شهادة البكالوريا وموجة التدين.. صلاة مؤقتة

شهادة "البكالوريا" في الجزائر.. الألق الدائم