29-مارس-2022
خمس ورقات

قصص

دُعيت منذ أيام لحضور حفل توقيع ومناقشة المجموعة القصصية "خمس ورقات" بإحدى مكتبات وسط المدينة بالقاهرة لمؤلفها الصحافي والقاص محمد العريان، وهي مجموعته الأولى المكوّنة من ثمانِ قصص قصيرة. عند حضوري لمناقشة المجموعة القصصية لم أكن انتهيت من قراءتها، وبالتالي لم يتشكل لدي رأي واضح وكامل، أما وبعد انتهائي من القراءة المتأنية فأرى من الواجب أن أعبر عن رأيي بصراحة وأن أشير إلى قاص بارع، إذ أراد أن يكثف مجهوداته في السنوات القادمة نحو فن كتابة القصة القصيرة.

أبطال قصص العريان يأتون من الطبقة الدنيا من المجتمع أو الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، هؤلاء المطحونون الذين يخوضون حربًا يومية من أجل تأمين قوت يومهم

أشار أحد الضيوف في حفل المناقشة إلى "الحلم" كرابط يجمع بين قصص المجموعة، وبالتأكيد أوافقه الرأي، فجميع أبطال العريان في القصص الثمان يحلمون أحلامًا بسيطة وتافهة ولكنها كبيرة بالنسبة إليهم، فجميع الأبطال يحلمون في اليقظة أو يعيشون في الوهم ثم يفيقون على قسوة الواقع المعيش، كما أن الإهداء موجّه إلى الأحلام "إلى أحلامي التي لم تتحقق: شكرًا على سعيك –بخبثٍ- لمنعي من الانتحار"، فهكذا منذ اللحظة الأولى للقراءة تصلنا الرسالة، لولا الأحلام لكان الانتحار.

أبطال العريان يأتون من الطبقة الدنيا من المجتمع أو الشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، هؤلاء المطحونون الذين يخوضون حربًا يومية من أجل تأمين قوت يومهم، ولذلك فإن أحداث المجموعة تدور في نطاق محافظة الجيزة، وتحديدًا في منطقة شارعي الهرم والملك فيصل، إحدى المناطق المميزة لتجمع السكان من الطبقة المتوسطة، ويسكن عشوائياتها وأزقتها الضيقة آلافًا من الطبقات الدنيا حيث المقاهي الشعبية وتجار المخدرات واعتياد الجريمة وقانون الغابة.

يبدأ العريان مجموعته بالقصة التي استعار منها العنوان "خمس ورقات"، يأخذنا في رحلة مع بطل القصة من منطقة مدينة نصر الراقية نسبيًا بالقاهرة، إلى حي الهرم بمحافظة الجيزة، حيث تحصّل البطل أخيرًا على مبلغ 25 ألف جنيهًا من أكبر جمعية اشترك فيها لأكثر من أربع سنوات، وهو مبلغ على تفاهته إلا أنه يمثل ثروة بالنسبة لهذه الشريحة من المجتمع، "تحويشة العمر" كما يقول البطل، لذا يحاول الوصول إلى منزله بسلام دون أن يفقد مليمًا واحدًا، وخلال هذه الرحلة نتعرف أكثر عمّا يدور بذهنه ومحاولاته للحفاظ على النقود وما يتعرض له من مواقف ومصاعب بسبب توتره من امتلاكه مثل هذا المبلغ، "صُعق حينما استقبلته السيدة بالأموال على منضدة صغيرة بغرفة الضيوف، تضعهم بلا مبالاة كأنها لا شيء، كأنها كل يوم ترى 25 ألف جنيه، صُعق مرة أخرى؛ فكل الأموال من فئة الـ 100 جنيه، 245 ورقة، من البداية قرر ألا يحمل حقيبة: (جيبي أكثر أمانًا، قطعة من لحمي، يمكن أن يخطف أحد الحقيبة، يمكن أن تُنتزع مني، أما جيبي فهو آمن)".

ينتقل بعد ذلك إلى قصة "العملية يوسف"، وهي أيضًا لا تخلو من الحلم، فالبطل يوسف المغترب عن أهله بمحافظة الفيوم، يحلم بالعثور على قطعة آثار من أجل الثراء السريع وتحقيق المراد، كما يرغب بشدة في الانتقام من جاره لأنه يضع الأحذية أمام باب الشقة وفي الممر حيث يتعثر في طريقه، ويبدأ في رسم الخطط المتخيلة لأفضل طرق الانتقام من هذا الجار المؤذي. وفي القصة التالية المعنونة باسم منطقة راقية ونادي رياضي شهير "زمالك" نرى أحلام البسطاء في الترقي الطبقي والحياة الآدمية، عندما يقع الجميع في خدعة رسمها أحد النصابين بإنشاء مقر إداري جديد لنادي الزمالك بمنطقة الطوابق (إحدى المناطق الشعبية بحي الملك فيصل بمحافظة الجيزة)، وبناءً على هذه الخدعة تتغير طبيعة المكان ككل بما فيها وظائف السكان وما يتحصلون عليه من رواتب، وتُفتتح المطاعم والمحال التجارية والسينمات والمولات والعلامات العالمية، وتهتم الحكومة بنظافة المنطقة ونظامها، وترتقي المنطقة كليًا في كل شيء بما فيها سلوكيات السكان أنفسهم بما يتناسب مع الوضع الجديد حتى أن اسم المنطقة نفسها يتغير إلى "الزمالك" بدلًا من الطوابق، حتى تُكتشف الخدعة، فيعود كل شيء إلى أصله إلا اسم المنطقة الجديد فيظل كما هو "زمالك".

"يستمر الحلم شهرًا، شهرين، يغرق بلا زمن، يعيش واقعه نصف واعٍ، كيانه في مكان آخر، هو ما تمنى؟، يأمر خلايا عقله: (أنا ما أريد، أنا ما أشاء)"، هكذا يحضر الحلم بقوة مرة أخرى في قصة "خيوط العنكبوت" فبطل هذه القصة كما يقول عنه الراوي "في الأحلام يلمس أعداءه؛ فتذوب جلودهم، يُنضج غيرها لتعذبهم. يشكّل نفسه كصلصال وفق إرادة حلمه، يخلق نفسه من جديد، ينفخ في روح شخصيته الجديدة"، فالبطل المقهور هنا يحلم بالقوة والقدرة الإلهية، أن يقول كن فيكون، أن يصير ما يريد وما يشاء، لكنه في النهاية "ظل يحلم ويحلم ويحلم، كروتين يومي لا يمكن الخلاص منه".

العربي-التلفزيون

ومن الروتين كفكرة هامشية في قصة خيوط العنكبوت، إلى الروتين كعمود لقصة "حطب الثورة"، فالبطل هنا أستاذ جامعي ذو ميول يسارية وأب مسيطر لم يغير عطره من ربع قرن، له حكمة مفضلة تقول "النظام كل شيء" ومحاولًا فرض هذه الحكمة على أسرته وضعها على باب الثلاجة حتى تمرد أحد أبنائه وكتب كلمة الروتين بدلًا من النظام، فاستشاط الرجل غضبًا محاولًا معرفة الجاني متعجبًا من كون الأبناء يكرهون الروتين، فحسب رؤيته "كل النفوس العظيمة التي غيرت التاريخ كان لها روتين لا يتغير"، في حين يكره أبناؤه الروتين ويرونه "مضاد للمشاعر، مُنافٍ للحب والغضب، للكراهية والتسامح، الروتين لا إنسانية، الآلات فقط هي ما تعمل بروتين ولا تشعر بملل". نرى في حطب الثورة كيف يفكر هذا الرجل النظامي في حضور الحلم أيضًا عندما أخبرته أمه صغيرًا "وأنت في بطني حلمت أن الشمس تسقط في حجري، سوف تصير رئيسًا يومًا ما". يتابع الرجل يومه الروتيني بكل دقة ويتخيل الشرارة الأولى التي تقود الجماهير نحو ثورة غير محسوبة على النظام الرأسمالي حيث يقتلون بائع البقالة الممثل للمنظومة الرأسمالية في نظره وصاحب الخراب، ويستبدل الرجل شعار الثورة الشهير "الشعب يريد إسقاط النظام" بشعار آخر "الشعب يريد إسقاط الأغنياء"، فالرجل يقدّس النظام ويكره الأغنياء.

"ثمن الأسعار" هي القصة التي تدور أحداثها داخل سيارة أجرة ميكروباص، فبعد ارتفاع أسعار البنزين أراد السائقون رفع الأجرة نصف جنيهًا فقط بينما يرفض الركاب هذه الزيادة، لنري كيف يتلاعب السائقون بالركاب ليخضعوهم ويجبروهم على دفع الأجرة الجديدة. بعد ذلك ينتقل العريان إلى قصة "خمسين بيضة" وهي قصة بها الكثير من الفانتازيا المتشربة بواقعية الحكي، فمصطفى بطل القصة يحلم بالزواج من حبيبته، لكنه لا يملك الأموال الكافية ولا المؤهلات المناسبة، فيضطر إلى الاشتراك بمسابقة لأكل خمسين بيضة كي يفوز بالجائزة الكبري التي توفر له الأموال الكافية للزواج، وبالتأكيد شأنه شأن باقي الأبطال يعيش في الأوهام ويحلم بما لا يملكه.

لأن العريان صحافي شتبك يوميًا مع قضايا المجتمع والناس والواقع المؤلم، يقرأ الأخبار بشكل يومي ويصنعها ويحيك القصص الخبرية ويحررها فكانت مجموعته الأولى انعكاسًا لفورة من فيض الأفكار والمشاعر المتماسة مع حيوات المصريين

يختتم العريان مجموعته بقصة "هزائم عادية" والتي أراها مناسبة أكثر كعنوان للمجموعة، فالأبطال جميعهم يخضعون يوميًا للهزائم العادية، البطل في هذه القصة مواطن بسيط أيضًا يحلم بحياة أفضل، لديه ابن يعاني من مشكلة في السمع وبحاجة إلى عملية طبية لزراعة قوقعة، يتحصل الأب على تأشيرة من وزارة الصحة بالعلاج على نفقة الدولة بيد أن الأمور لا تسير على ما يرام.

ربما لأن العريان صحافي في الأساس، يشتبك يوميًا مع قضايا المجتمع والناس والواقع المؤلم، يقرأ الأخبار بشكل يومي ويصنعها ويحيك القصص الخبرية ويحررها فكانت مجموعته الأولى انعكاسًا لفورة من فيض الأفكار والمشاعر المتماسة مع حيوات المصريين بشكل واضح، فجاءت القصص شديدة الواقعية  في موضوعاتها كأنها قطعة من قصة خبرية في جرنال يومي، شديدة الخيال في الطرح كانبثاق من دهشة طفل في الخامسة يسأل أسئلة ساذجة ولكنها شديدة الصدق والعمق فتعجز الرجال والنساء والشيوخ عن الإجابة، مجموعة قصصية جيدة ومتماسكة، وتجربة أولى موفقة من الزميل الصحافي محمد العريان.