29-مايو-2023
النساء لا يفعلن ذلك

كتاب النساء لا يفعلن ذلك

نادرًا ما ينجو الأدب الذي تكتبه النساء عن القضايا الخاصة والعامة من التصنيفات، إذ إن كلّ أدب يتناول مسائل المرأة على سبيل الحصر يكون مستقطبًا لتداخل المصطلحات بين نسائي ونسوية، وحتى أنثوية. وكثيرًا ما ينظر لهذه الأعمال التي تكتبها النّساء حول وجودها، وحريتها، وتطلعاتها داخل المجتمعات العربية على أنها أدب مناقض لما هو سائد، ومعاد لقيم المجتمع.

الحقيقة ليس المقام هنا للكتابة عن الأدب النّسوي، ذلك أنني لا أجد طائلًا من هذه التصنيفات، فالأدب وجد ليكن إنسانيًا، وإن كنّا سننحاز بعض الشيء إلى رأي بعض النقاد في أن الأدب الذي تكتبه النساء لا يخلو من سمات خاصة، والواقع أن هذا الحكم لا يعكس جدلًا نسائيًا ورجاليًا بقدر ما يكشف عن وعي وتطور في الكتابة.

خصصت غزلان تواتي 128 صفحة لتضمنها ثمانية مصائر، جابت خلالها أحياء وهران تنقب عن حكايات لنساء فرضت عليهن الحياة دروب دون سواها، دروب من صميم الحياة الاجتماعية العادية للمرأة في المجتمعات التقليدية

المجموعة القصصية "النساء لا يفعلن ذلك" (دار فضاءات، عمان 2022) للكاتبة والقاصة الجزائرية غزلان تواتي تعبر عن هذه الجدلية في التصنيف، كونها قدمت ثمانية قصص لسرديات عن نساء يعشن بيننا، ومن بيئات متباينة أحيانًا، متعلمات وغير متعلمات، عاملات وماكثات في البيت، يتعرضن لمواقف وتجارب مصيرية، تجبرهن على اتخاذ قرارات تخص الحياة اليومية لكل واحدة منهن، ويدفعن ثمنها في الغالب، بسبب الحرج الذي تسببه لثقافة راكمتها المجتمعات لعقود. فهل كتبت غزلان تواتي نصوصها بروح نسوية أو بروح إنسانية؟ وهل عبرت عن صوت جمعي متواري خائف، أو صوت أنثوي فحسب؟

نص إنساني أو نسائي؟

يبدو للقارئ أن غزلان تواتي تتبنى موقفًا منقلبًا على معايير وقيم المجتمع الجزائري، وأنّها تضمر حربًا نسوية ضد كلّ ما هو ذكوري وتقليدي، إلّا أنّ القراءة المتحررة من الأحكام والمتخففة من أثقال الأيديولوجيات، ستضع النصوص في سياق إنساني معتدل، وستختفي آنذاك الأحكام الجاهزة التي تنضوي في العادة تحت مسمى التمّرد على أشكال المجتمعات العربية البطريركية.

اختارت الكاتبة عنوان مجموعتها من أحد عناوين قصصها، فهل كان الاختيار واعيًا أو أنه اعتباطي؟

في الحقيقة، ما إنّ ننهي قراءة العمل حتى نجد الإجابة عن هذا السؤال. فالعنوان جاء في صيغة معاتبة، ولكنها كمن يربت على أكتافهن، "النساء لا يفعلن ذلك". أي النساء اللواتي صقلتهن التجارب والمحن، سيتصرفن حيال حيواتهن ومصائرهن وإنسانيتهن بوعي، والوعي هنا لا يرتبط إجبارًا بالمستوى التعليمي، ولكن بوعي إنسانيّ نابع عن امتحان عصيب مر عليه الإنسان. والإنسانية سمة بشرية جامعة لا تتعلق بجنس بعينه.

خصصت غزلان تواتي 128 صفحة لتضمنها ثمانية مصائر، جابت خلالها أحياء وهران تنقب عن حكايات لنساء فرضت عليهن الحياة دروب دون سواها، دروب من صميم الحياة الاجتماعية العادية للمرأة في المجتمعات التقليدية. ولأن وهران هي مدينة الكاتبة فذلك هو المتجلي، فقد نسجت نصها انطلاقًا من المعرفة بالمكان، فيجد القارئ نفسه في شوارع وأحياء المدينة بتفاصيلها ويومياتها وداخل بنايتها وحقول أريافها. واختيار وهران كإطار مكاني قد يحمل للوهلة الأولى قراءتين، بدءًا من أن وهران، المدينة الساحلية الواقعة غرب الجزائر، تعبر في المخيال الجزائري عن ثقافة تحمل بذور الانفتاح، فهي أكبر مدن الغرب الجزائري، وتحظى ظاهريًّا بهامش من الحرية تتفوق فيه على باقي مدن الجزائر، ويعود الأمر أساسًا للعامل التاريخي والجغرافي، وبالتالي تصبح وهران في نص الكاتبة بيئة حاضنة ومغذية للفكر المتحرر.

وفي قراءة ثانية تظهر وهران، مع كلّ الآراء التي من الممكن أن تجمع حولها كمدينة أكثر انفتاحًا، ما هي إلّا وجه آخر لباقي المجتمعات الجزائرية، أين يسود فيها خطاب الجماعة، وتتلاشى فيها الفردانية، ويتحد فيها العرف مع القانون ليؤسسا معًا دعامة مجتمعية من الصعب اختراقها، بل يتفوق فيها، وفي كثير من الأحيان، العرف على القانون، أو يدعم فيها القانون العرف بشكل فج؟

ثمان نساء في ثمان أماكن مختلفة، ستة في وهران. وقصتين "الشقة" و"حورية"، شهدت تفاصيلهما مدينتي جيجل في الشرق الجزائري، ومستغانم في الغرب الجزائر.

القول إن بطلات المجموعة هن ثمان نساء يعبرن ببساطة عن بانوراما اجتماعية يومية (البساطة هنا مفردة مفخخة)، لا يقصد بها ما تعودنا على وصفه بالحياة البسيطة بل في قدرة الكاتبة على جعل القارئ مهما كان جنسه يتقمص الشخصية المفتاح، يتقمصها بكلّ تفاصيلها، ويتماهى ثم يتعاطف معها من دون أن يقع ضحية الأحكام، فالقصص تسرد بخطاب عقلاني وبسيط غير متكلف في لغته ولا في عباراته. ومتوافق تمامًا مع شخوص المجموعة، أي أنها تعرض ثمان خطابات يعبر عنها بضمير المتكلم، لا يعثر فيها تقريبًا على أجزاء لا تعكس طبيعة ومستوى البيئة التي شكلت فيها الكاتبة بطلات قصصها. ذلك أنها حرصت ومنذ البداية أن تنتهج مسلكًا يكون فيه الخطاب موجه للمجتمع بشقيه النسائي والرجالي، وفيّ لمستوى وطبيعة الحاملين له، إذ لا يمكن أن تتحدث امرأة غير متعلمة بخطاب محشو بلغة عالمة وعارفة تناقض الحقيقة.

تتمركز نصوص غزلان تواتي أساسًا حول أقدار لنساء، تلتقي جميعها في كون المرأة هي من تأخذ زمام مصيرها، بعد أن ضاقت ذرعًا بظروف هي من صنيع الإنسان

يبدو أن الكاتبة كانت تريد عبر كل بطلة من بطلاتها أن تلفت الانتباه لمصائر نساء "إنسان"، نتقاسم معهم المكان والزمان، وننتمي معهم لمجموعة من القيم الثقافية والإنسانية والأخلاقية. يمارس عليهن المجتمع بكل أطيافه ضغطًا وتجبرًا بما فيه المرأة نفسها.

لا يشير خطاب الكاتبة على لسان شخصيات مجموعتها، لتبني خطاب نسوي معادٍ، عكس ما ذهبت له بعض الآراء التي قلصت هذا العمل الأدبي وحصرته في جزئية تسلط المجتمع الأبوي، والمطالبة بالتحرر منه، وصورت أن المرأة ومن خلال اختلاف مقامها في المجموعة القصصية، تسعى لشن حرب ضروس ضد السلطة الذكورية التي تمارسها المجتمعات التقليدية، ذلك أن تبني الخطاب النسوي في مجموعة كهذه يعد ترفًا فكريّا. لا يمكن أن تعبر عنه أوضاع اجتماعية وثقافية تمثلها مجموعة من النساء، تجد نفسها أمام أقدار اختارتها برضاها أو وجدت فيها عنوة، لتكتشف لاحقًا أنها وضعتها في حالة مزعجة. فامرأة الريف التي جاء بها زوجها للمدينة، واختار الخيانة وحياة العربدة، لم تكن لتفكر للحظة واحدة في ترك زوجها والعودة للعمل في الحقل أمام دهشة أهل القرية، لو لم تجبرها الخيانة والإهانة مرات عديدة على ذلك. وحين قررت أن تغير حياتها لم نعثر على جملة واحدة في النص تضمر خطابًا موجه للرجل (الزوج)، بل تصرفت بما تمليه عليها كرامتها في مشهد هادئ بالغ في صمته من كل خطاب قد يقال. ولم تكن قصة "خيرة"، الوحيدة بهذه الوتيرة، بل جلّ قصص المجموعة صيغت على هذا النحو تقريبًا.

مصير أم مصائر؟

تتمركز نصوص غزلان تواتي أساسًا حول أقدار لنساء، تلتقي جميعها في كون المرأة هي من تأخذ زمام مصيرها، بعد أن ضاقت ذرعًا بظروف هي من صنيع الإنسان، وبعد محاولات كثيرة، حاولت من خلالها لفت انتباه من حولها، أنها إنسان لا تكملة عدد.

تبدأ المجموعة بقصة "القضية 311"، وهي قصة لمعلمة وضعت في السجن بعد أن أجهضت جنينها، ابن لا ترغب فيه، لا لأنها حملت به خارج المؤسسة الزوجية التي لا يعترف بها المشرع الديني والقانوني، ولكن لأنها لا تجد نفسها مستعدة لإنجاب هذا الطفل. وهذه القصة الوحيدة في المجموعة تقريبًا التي نجد فيها انتقال الخطاب إلى مستوى أعلى فكريًّا، اذ تعبر الكاتبة على لسان البطلة عن جملة من الحقوق المتقدمة، مقارنة بسياقات مجموع القصص، ولكن هل تبدو هنا المسألة نسوية؟ تشير الكاتبة في هذه القصة أساسًا للتشريع القانوني، لافتة الانتباه أنه تشريع كليّ شامل لا يراعي الاستثناءات، إذ إن الكثير من النساء يجدن أنفسهن في مواقع كثيرة يرفضن الإنجاب لسبب أو لآخر، ويجدن أنفسهن حينها إما مضطرات للتحايل باستعمال عقاقير غالبًا ما تكون قاتلة لإجهاض الجنين، أو الإنجاب ليجد الطفل نفسه مهملًا لاحقًا.

تتقاطع قصة "القضية 311" مع قصة "كنزة" الشابة الحالمة التي تؤسس عالمها بالعزف على الكمان وحبّ الموسيقى والأوبرا، والتجوال فوق دراجة هوائية في شوارع المدينة، تتعرف على شاب مهاجر جاء لزيارة أهله في وهران. أحبها وأراد الزواج منها شرط أن تتخلى عن أكثر الأشياء ارتباطًا بها؛ الموسيقى التي تحبها. وهنا تترابط قصة "كنزة" مع قصة أخرى في موضوع مسكوت عنه ويعتبر من طابوهات المجتمع، وهي العذرية.

في قصة "العروسة" دار حديث بين عروسين قررا أن يؤجلا تلك الليلة التي تتجه إليها الأنظار في المجتمعات التقليدية، لكن كان لوالدة العريس رأي آخر، تقرر فيه العروس على إثره المغادرة. هنا لا نقرأ خطابًا نسويًا يجلد المجتمع الذكوري، بل عروس انسحبت من حياة زوجها بهدوء من دون أن ترتدي عباءة المدافعة عن حقوق النساء. تصرفت وفق ما يمليه عليها شعور الانسان السويّ فحسب، يضع اعتبارًا لإنسانيته وكرامته.

وفي تقاطع مصيري آخر، نجد قصة "حورية" التي حظيت (هنا الكلمة لها دلالة اجتماعية ترى في الزوج الثري امتيازًا)، بزوج ثري. تسرد هنا القاصة تفاصيل حياة حورية بعد أن انتقلت لبيت زوجها في فيلا بأعالي مدينة مستغانم، أين أخذت تتوارى فيها جاذبية الأشياء، شيئًا فشيئًا، وغدت فيها الحياة اليومية مملة بعيدًا عن عالم حورية قبل الزواج.

بنفس النسق اشتغلت غزلان على الأحداث فكان الوصف والتشويق حاضرين بخطاب مباشر لم يتكلف في عباراته وجمله، ولم يتوجّه إلى مستوى دون سواه. والمتمعن في لغة النص، سيلحظ حتمًا أنه لم يغرق في شعارات عدوانية، واكتفى بأن يكون بروح انسانية لا يشير ظاهريًا إلى ظلم ذكوري ممارس على النساء، بل شخص بهدوء مرضًا مجتمعيّا يتقاسمه الجميع بمستويات مختلفة، وبذكاء تضعه تحت تليسكوب الوعي. فيجد القارئ نفسه، مهما كان جنسه متعاطفًا مع بطلات القصص، ذلك أن الكاتبة تخاطب إنسانية المجتمع وضميره لا جنسًا بعينه.

في القصص مجموعة مشاهد إنسانية، ولم يكن النص محاكمة للمجتمع بقدر ما كان مكاشفة للإنسان ضمن خيارات اجتماعية متباينة، قد نقف فيها أمام مشهد تراجيدي تكون فيه المرأة ذاتها هي صوت المجتمع، وهي المدافعة عن قيمه التي تتعارض معها ذلك أنها هي التي تلقن المجتمع قيمه الأولى وتغرسها فيه ليأتي دور الرجل مثبتًا لها. لنخلص، وبعيدًا عن نص تواتي، إلى أن خلف كل نظام اجتماعي متجذر، تكون المرأة في حالات كثيرة داعمة.