08-نوفمبر-2018

من رسومات رواية "العملاق الكبير الطيب" لـ للكاتب رولد دال

لم يكن يدور في خلد داليدا وهي ترسم قصرها الأسطوري، المتجذّر من الرؤى المتموجة عند سريرها الصغير، وتلك النجوم الحاشدة وراء نافذتها، أن يتجسّد على تلة مرتفعة تتجاوز أرضية غرفتها ذات الألوان الوردية كأحلامها الكثيفة.

إنها طفلة في الثامنة من عمرها سليلة عائلة عريقة بقرية "بخعون" اللبنانية، التي تقع على سلسة جبال تسامر تاريخًا مجيدًا ممتدًا إلى بلاد الشام.

داليدا مشاكسة للحلم، ذات بريق صاخب يؤتي سرّ جمالها الطفولي بعينين عسليتين ووجه مقمرّ، مع جديلتين كثّتين من الشعر الكستنائي.

بشقاوة هرعت إلى حضن والدها محمد وهي تستمد من عناقه شحنة دفء ودفق حنان يسري في عروقها الغضة، لتصبح شامخة كجبل "المكمل"، فيظل ينظر إليها بلطافة وحب تموّنه شفقته عليها وهي التي ترعرعت يتيمة الأم. كان يشعر أن علاقة قوية من نوع ما تألفت بينه وبين صغيرته جرّاء ذلك، فتتدفق حرارته وتصل إلى عينه لتلمع أكثر حين تسبح في دموع حائمة وفي لحظات مثل تلك، حتى تدّس قشعريرة تحتل كامل جسده.

انها تقوده إلى عالمها البريء، بعيدًا عن دنيا البشر، عن سرب مخاوفه وهواجسه رغم ثراءه الملفت. لم يكن ليصنف ثروته التي آلت إليه بعد تسلسل جيني سرّ سعادته إنما كانت داليدا من تصنعها بصوتها البحيح وضحكاتها المسترسلة حين يضمّها ولا يتوقف عن دغدغة طفولتها الحالمة.

بقدمين حافتين، كانت تقف فوق أصابعه وهي تخترق حذاءه الأنيق وتصعد بجسمها الضئيل لتلامس أنفاسه الغائصة في دخانه الأزرق، كما تتخيلها مثل خيوط لزجة تحط فوق جبينها المشرق فتصاحبه في كل جلجلة وفكرة.

ظلَّ ممسكًا تلك الورقة التي ناولته إياها بعد ان أكملت الرسم، ولم يكن بالحسبان أن تصبح أساسًا ينهض عليه حلمها الصغير.

ـ أبي ...هل يعجبك القصر وألوانه الكثيرة؟

قالت ذلك وهي تتأمله وتنتظر ردّه بشغف، وتدفع إبهامها في الصورة لتوزع كل طاقتها في دائرة يدها القابضة على ذلك البريق الذي يلتقطه الأب بعناية ويقرأ عرضها اللامشروط.

قبض أكثر على الورقة محدّقًا في عينيها اللتين كانتا تشعّان بالفرح والحبور وقال:

ـ أنت رائعة يا صغيرتي ورسمك جميل ولا أحتاج إلى التفكير كثيرًا لأحرز ما تحلمين.

رفعها أكثر بين يديه واسترسل قائلًا ببهجة وصرامة طافحة على محياه:

- لقد لمحت قصرًا جميلًا آتيا من عالم الخيال، لكنني سأجعله واقعًا وأحوّل رسمك إلى بناء ملموس مطل على قريتنا الساحرة، وقابعًا فوق التلة المرتفعة هناك ليزوره الأطفال وتكوني أميرة القصر.

صارت داليدا ترقص بين يديه وتطلق ذراعيها في الهواء وهي تصيح:

-أنا أحبك كثيرًا يا أبي.

ثم طوقته بجسمها الضئيل والتصقت به حتى شعر بحمولتها الهشة وهو يصغي الى دندنتها المسترسلة: "أنا أميرة القصر.. أنا اميرة القصر".

لقد شعر أنه نطفة من سيل أحلامها، وتلك الخيالات المحاذرة والمصفوفة في عالمها السحري لينصّب أمامها كنهر يصافح الأشجار المزيّنة برسوماتها والمرصعة بفصوص زاهية الألوان، فتغدو أميرة قلبه وهي الممسكة بسلة كريستالية تعكس صورتها المتلألئة وتوزع ضياءها في أوصاله.

لا عجب أن ينبهر بصغيرته ويبني لها قصرها الخرافي ليسخرّ لها هذا السيل الكثيف من الحب والعطاء، وهو مزدان ببهجة طالما افتقدها، فيستسلم عن طواعية لتحيله إلى أب أسطوري يشد على أصابعها الطرية، مخوّلًا لها حق الحلم قبل أن يحاصرها الإدراك الحقيقي فتكتشف واقعًا متصدّعًا مهدّدًا بالخراب، ومعلّقًا بين الملل والاحتضار، رغم الحشود الكثيفة الاتية جهة الخواء لتتكدس كثقوب سوداء تمنع الضوء الكاشف للحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

القلب المدرّب على الأسى

حين كنا صغارًا