24-أغسطس-2018

مهند عرابي/ سوريا

كتبت أول قصة في حياتي، كان عمري ثلاثة عشر عامًا، وامتلكت الجرأة لأسمح لأخوتي الذين يكبروني بسنوات كثيرة بقراءتها. كانت ردودهم صادمة ومؤذية جدًا، الأكبر ظل صامتًا وهو يمطرني بنظرات التحقق من جرم قد ابتليت به. الأوسط، انهال عليّ بلسانه اللاذع المر، فقد كان مبدعًا بابتكار المفردات الساخرة، أنتِ أيتها القزمة الشجاعة، سأمنحك قلادة الجرأة الاستثنائية، لكن قولي لنا لمن هذه القصة حقًا وسأسامحك على كذبتك الفظيعة؟ أما أختي الكبيرة، فراحت تقهقه بلؤم وهي تشير بإصبعها على صغر حجمي وسني وتسخر من وقاحتي في ادعاء كتابتي للنص.

كنت أشعر بأني أغرق في محيط متجمد ممتلئ بالأسماك الشرسة القاتلة، ولا أقوى على الدفاع عن نفسي.

شعرت بأني أُصبت بالخرس، صرخاتي تتكدس في حنجرتي وتقطع حبالي الصوتية، أما قلبي فكان يطرق كطبل الغجر الذين يزورون حيّنا القريب من البحر، في حفلاتهم التي كانت تروقني، وأستمتع بمراقبتهم من نافذة غرفتي وأعيش معهم ومع تفاصيل احتفالاتهم وأتخيل حياتهم وأسماءهم، أشاركهم الطعام والتحضيرات لمناسباتهم البهيجة، لكني لم أكن أجرؤ على الاقتراب من دوائرهم، لأسباب كثيرة أهمها تحذيرات أمي، لأن شائعة سيئة التصقت بهم ولم أكن أصدقها، بأنهم يخطفون الأطفال ويدربونهم على ألعاب السيرك والتسول والأعمال المريبة.

امتدت جلسة التحقيق بشأن النص - القصة، لدهور من الهاوية، ولم أفق من صدمتي التي سببتها وحشية إخوتي إلا على أصابع والدتي الدافئة، تحتضن خوفي وكرهي لهم.

كانت تحمل بيدها دفتري الأخضر السري، الذي أكتب فيه كل ما يجول في خاطري، كنت أفكر كل ليلة حين أنتهي من كتابة ما أريد على صفحاته، كيف لأوراق هذا الدفتر الصغير أن يحتمل كل هذا الجنون والهواجس الطفولية، حلقات المخاوف المتخيلة بحجم ساحة الطفولة المسموحة، وكل هذا الأمل بالقادم، الأمل في الغد الذي زرعته على صفحات ضئيلة الحجم، وطوعتها عنوةً لتحتوي أمنياتي، فامتلأت بأقواس قزح وسماء صافية.. صافية لا يشوبها دخان الخديعة.

ولأن أخوتي كانوا ممن يكتبون الشعر، وعلى صلة وثيقة جدًا بالأدب والكتابة والموسيقى والمسرح، اعتقدوا بأن من حقهم محاكمتي، قال الكبير: هذا النص لا يكتبه إلا من قرأ أمهات الكتب، اللغة ناضجة جدًا، والفكرة مرعبة الجمال، من أين لك هذه المعرفة بحياة الفدائي وتفاصيلها؟ ثم هذا الحرفية بالاختزال، كيف كان بإمكانك اختصار قصة عظيمة بسطور قليلة دون عيوب ولا ركاكة؟ كبار الكتاب خاضوا ما لا تتخيلين من معارك في ساحات اللغة والكتابة، حتى تمكنوا من الوصول إلى الحرفية في إبداع نص جميل ومتين. لن يصدق أحد بأنك أنت القزمة قد كتبت حتى ما دونه من قيمة.

قالت أختي: الأمر محسوم من وجهة نظري، لكن أريد أن أعرف صاحب النص الحقيقي، لأن القصة جميلة جدًا.

قال أخي الأوسط، دعكم من مناقشة هذا الأمر ولنكمل لعبة الشطرنج.

قال ذلك ببرود القاتل المحترف، كان يمزق أحشائي بكل كلمة ينطق بها.

حاربت دموعي كثيرًا، حتى لحظة وصول أصابع أمي إلى كتفي، وكانت طوق نجاتي.

دموع حارقة ممتلئة بمشاعر مختلطة، لكن أوضحها كان الكراهية، كرهت أخوتي الذين أعشقهم وأحب مجالستهم، أهتم بأدق تفاصيلهم، كانوا مقياس الجمال والإبداع والذكاء بالنسبة لي، لكنهم انكسروا أمامي الآن، وتهشمت صورتهم.

قالت أمي بصوت حزين: هذا الدفتر الصغير يثبت بأنها صاحبة القصة، وأكثر منها بكثير.

ألقت دفتري أمامهم بسخط، وسحبتني بعيدًا عنهم، وطلبت مني مسامحتها لأنها كانت تقرأ ما أكتب دون علمي.

في المساء، خرجت من غرفتي إلى الصالة، أخذت دفتري الأخضر، وقصتي تلك، ذهبت باتجاه البحر، حفرت قبرًا على الشاطئ وأودعتها فيه.

منذ ذلك الوقت، صار ظلي فقط من يشاركهم الجلسات والوجبات، أما أنا بقيت حبيسة صفحات الدفتر الأخضر.

بعد ثلاث سنوات، كنت أتصفح مجلة ثقافية، وقعت عيني على عنوان قصتي "المشكلة" تلك، منشورة فيها، ومكتوب بالخط العريض، في ذكرى رحيلها الثالثة، إلى شقيقتنا التي قتلها نبوغها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

آثار جانبية.. ديون قديمة

الراء الفاصلة بين مصيرين