05-أبريل-2022
خوان خوسيه مياس وروايته "قصتي الحقيقية" (ألترا صوت)

خوان خوسيه مياس وروايته "قصتي الحقيقية" (ألترا صوت)

في 78 صفحة، كتب الروائي الإسباني خوان خوسيه ميّاس روايته "قصتي الحقيقية" (منشورات المتوسط، 2021/ ترجمة أحمد عبد اللطيف). 78 صفحة يروي فيها بطل الرواية قصته ليكشف سرًا يقسم حياته إلى قسمين لكل منهما عنوانه، الذي يختزله ويختزل معه سلوك بطل العمل. بل يمكن القول إنهما صادران، في الأصل، عن تصرفاته وسلوكه وما يترتب عليهما من أفعال تصح عندها عنونة الجزء الأول من قصته بـ "الأبله"، والثاني بـ "الجريمة والعقاب".

يعيد خوان خوسيه ميّاس في روايته "قصتي الحقيقية"، توظيف القراءة ضمن سياقات انفردت فيها بتسيير حيوات شخوصها ورسم مصائرهم

يستعير الراوي عناوين قصته من روايتين لدوستويفسكي صادفهما في مكتبة والده، الذي لا يفعل شيئًا سوى القراءة. وهي استعارة مردها اعتقاده بأن ظهور هاتين الروايتين أمامه، كل في مرحلة، إنما هو إشارة إلى أحواله وتعبيرًا عنها وعن سلوكه وما يترتب عليه. هكذا تكون قراءته لبضعة أسطر من "الأبله"، مرتبطة بشعوره بأنه "الأبله" المقصود في الرواية. ويكون ما منعه من قراءة "الجريمة والعقاب"، هو شعوره بأن الاقتراب منها قد يكشف للآخرين سره الذي تتشكل عليه، وبفعله، أحداث الجزء الثاني من سيرته.

السر الذي يسعى الراوي، وهو طفل في الثانية عشر من عمره، إلى إخفائه عن الآخرين، والديه تحديدًا،  هو جريمة ارتكبها بغير قصد، إذ يخبرنا بأنه قام برمي كرة زجاجية صغيرة من أعلى الجسر الذي قصده بهدف الانتحار، ليتأكد من وجود الجاذبية. لكن الكرة اصطدمت بزجاج سيارة عابرة، فأربكت سائقها وتسببت بحادث سير توفي فيه السائق وعائلته باستثناء طفلة، من عمر الراوي، نجت لكن بعد فقدانها لساقها، وإصابتها بندوب شوهت وجهها.

YT Banner

يتحول الراوي بعد هذه الحادثة، وبفعلها، من أبله إلى مجرم يدرك بأن نجاته تكمن في البلاهة نفسها. أو، بجملة أخرى، في ممارسة البلاهة والحفاظ على ملامح وتعابير حيادية تجنبه أي ردة فعل غير متوقعة، قد تثير شكوك والديه والآخرين عند ذكر الحادثة أمامه. هكذا تتحول البلاهة من اعتقاد وتأثير إلى ممارسة وسلوك، يوفران له مظهرًا طبيعيًا يخفي خلفه، وخلف بلاهته وملامحه الحيادية، حقيقة أنه مجرم.

لكن سر الراوي لا يبدو سرًا إلا بالنسبة إليه، ذلك أنه يكتشف بعد مرور عدة سنوات على وقوع الحادثة، أن والدته تعرف بأنه المسؤول عنها، وكذا الفتاة التي نجت منها ووقعت في حبه. بل وحتى والده الذي طلب منه أن يكتب قصته الحقيقية، بدلًا من كتابه قصص لا تحمل سوى نصف الحقيقة، أو جزءًا منها.

مع ذلك، لا تنتهي الرواية بانكشاف سر بطلها. ذلك أن هذا السر يردنا، بانكشافه، إلى آخر يتمثل في سؤال: لمَ حاول الراوي الانتحار؟ الإجابة، ببساطة، هي رفض والده له، وفشله في إرضائه. وهذا بالضبط ما جعل منه أبله في نظره، وشخصية غريبة ومريضة وأقرب إلى لغز في نظر والده الذي كان منصرفًا إلى القراءة، ووالدته التي كانت تحرص على توفير الهدوء الذي يحتاجه زوجها ليقرأ. وكلاهما يشتركان في إهمال الطفل، ودفعه إلى الاعتقاد بأنه أبله.

ينطوي السؤال السابق على آخر يبحث في الأسباب، التي دفعت والد الراوي إلى رفضه. يظن الأخير في البداية أن السبب هو تبوله في سريره رغم بلوغه اثني عشر عامًا. لكنه يكتشف لاحقًا بأن هذا الرفض مرده إلى كونه عاديًا وطبيعيًا ومألوفًا ومكررًا إلى درجة تثير نفور والده منه. وهذا ما يفسِّر تغيّر سلوكه في نهاية الرواية، أي حين يكتشف بأن لابنه جانبًا غريبًا ومميزًا. ما يعني أنه كان يتعامل معه، في البداية، بالطريقة التي يتعامل بها مع الكتب المألوفة التي تثير نفوره، على عكس تلك الفريدة والمميزة التي تنال إعجابه.

يروي بطل الرواية قصته ليكشف سرًا يقسم حياته إلى قسمين لكل منهما عنوانه الذي يختزله ويختزل معه سلوك البطل نفسه

القراءة إذًا هي السبب وراء جميع ما حدث في الرواية. فهي المسؤولة عن رفض والد الراوي لابنه بعد أن أوهمته، على ما يبدو، بأن على ابنه أن يكون شبيهًا بالكتب المميزة والفريدة، لا تلك العادية والمكررة. ما يعني أنها المسؤولة أيضًا عن تفكير الطفل في إنهاء حياته، ومحاولة الانتحار التي انتهت إلى جريمة جاء عقابها على شكل شعور مستمر بالذنب سمم حياته اليومية، وأصابه بهلع لا يمكن الشفاء منه. وهي جريمة لم تكن لتقع لو أن والده لم يرفضه. بل لو أنه لم يكن قارئًا.

أعاد خوان خوسيه ميّاس في روايته "قصتي الحقيقية"، توظيف القراءة ضمن سياقات انفردت فيها بتسيير حيوات شخوصها ورسم مصائرهم، بطريقة نشعر أمامها بأن القراء تمارس نوعًا من الهيمنة النفسية، التي تمكّنها من إعادة صياغة سلوك وطريقة تعاطي من يمارسها، مع ذاته ومع الآخرين من حوله. هذه هي بالضبط حال والد الراوي التي صنعت قصة الأخير، الذي يرى بأن ما حدث ما كان ليحدث لو أن والده قرأه مثلما يقرأ كتبه.