07-أغسطس-2017

من كواليس تصوير الفيلم (shbabbek)

تدور قصة فيلم "سواق الأتوبيس"، إنتاج سنة 1982، للمخرج المصري عاطف الطيب، دون حرق، حول حسن، الذي يعمل سائق أتوبيس في الصباح، وفي الليل سائق تاكسي، ليستطيع العيش وزوجته في حقبة الانفتاح الاقتصادي أيام الرئيس أنور السادات.

تدور قصة "سواق الأتوبيس" حول حسن، سائق أتوبيس في الصباح، وفي الليل سائق تاكسي، ليستطيع العيش وزوجته في حقبة الانفتاح الاقتصادي

وفي يوم ما يصله من أخته الصغرى خبر أن أباه، المعلم سلطان -الذي تشهد علاقته به توترًا منذ سنوات- طريح الفراش، لأن مصلحة الضرائب هددت بحجز ورشته للأخشاب وبيعها في المزاد، إذ عليها 20 ألف جنيه كضرائب متأخرة، وهو مبلغ كبير جدًا في ذلك الزمن، فيبدأ حسن رحلة مكوكية عبر أحياء القاهرة ومدن مصر، لجمع المبلغ من أزواج أخواته البنات وأصدقائه، رحلة نتعرف فيها على الوجه الجديد للإنسان المصري في عصر الانفتاح الاقتصادي.

يعتبر فيلم "سواق الأتوبيس" من أهم أفلام السينما المصرية والعربية، ويحتل المركز الثامن في قائمة أفضل مئة فيلم مصري، والمركز الـ33 في قائمة أفضل مئة فيلم عربي، وحاز بطله نور الشريف على جائزة أفضل ممثل في "مهرجان نيودلهي السينمائي"، من لجنة كان أحد أعضائها المخرج الهندي ساتياجيت راي، رائد الواقعية الجديدة الهندية.

اقرأ/ي أيضًا: وهم الوجود في فيلم The Truman Show

ويقول الناقد حسن حداد عن فيلم "سواق الأتوبيس" في مقال له في مجلة "هنا البحرين" نشر بتاريخ 28 أكتوبر 1992: "إن سر نجاح فيلم "سواق الأتوبيس" هو أنه يحدثنا عن الأشياء العادية التي يتصور البعض بأنها ليست موضوعًا للسينما. ثم أن الفيلم قد تحدث عنها بمرارة وبوعي وصدق وحرارة، دون الوقوع في المباشرة.

لذلك فإننا نظل مشدودين في متابعة الأحداث حتى النهاية في فيلم "سواق الأتوبيس". وقد لا يختلف اثنان على أننا أمام فيلم ينتقد بقوة ذلك الخراب الذي حل بالإنسان المصري العادي في عصر الانفتاح، لكن أليس بغريب من أن كلمة الانفتاح لم ترد في حوار الفيلم ولو لمرة واحدة. وهذا ـ بالطبع ـ دليل واضح على أن الفيلم قد تحاشى جاهدًا تقديم مواعظ وخطبًا رنانة ومباشرة عن الشرف والأمانة والوطنية.

وعلى العكس من غالبية الأفلام التي تناولت مرحلة الانفتاح، ففيلم "سواق الأتوبيس" لم يبذل المجهود المعتاد في ابتكار أحداث كبيرة أو أشخاص ذوي شأن، بل صب كل الاهتمام في تأمل التطورات والتغيرات الدقيقة في الأخلاقيات والمشاعر، وكذلك الروابط العائلية والآثار النفسية المترتبة منها. وكم هو صعب حقًا الإبداع في هذه المنطقة الوعرة".

وفي مقابلة تلفزيونية على قناة الغد، أواخر تموز/يوليو الماضي، للسيناريست بشير الديك كاتب سيناريو فيلم "سواق الأتوبيس"، تحدث عن أن المخرج محمد خان هو صاحب فكرة قصة الفيلم، وقد حدث بشير عنها، وبشير بدوره غاب لعدة أيام، ثم عاد لمحمد خان بمعالجة للفكرة، لكنها لم تعجبه، واكتشف بشير بعد عدة أيام أن خان أعطى الفيلم لصديقه عاطف الطيب الذي كان ما زال في بداية مسيرته الإخراجية، فطار فرحًا به، ويعزو بشير الديك في المقابلة عدم إعجاب محمد خان بمعالجته للفكرة، إلى كون خان بطبعه يميل للحيوية والحركة، ولا بال له على التأمل المعمق في القضايا، كما أن ما يشغله بالمقام الأول هو التقنيات السينمائية، وليس القضايا، بعبارة أخرى كيف يقول وليس ما يقول.

لم أكن أعرف هذه الحقائق الذي ذكرها بشير الديك أثناء مشاهدتي لفيلم "سواق الأتوبيس"، وعندما رأيت اسم محمد خان في مقدمة الفيلم كصاحب القصة تفاءلت خيرًا بحكم عشقي له، لكن طوال مشاهدة الفيلم استغربت أن يكون خان كاتبًا للفيلم، فالفيلم يحمل سمات لا تنتمي لسينماه، وخمنت أن سبب ذلك ربما يعود إلى تخبط البدايات، إذ كان خان مازال في بداية مسيرته تلك الفترة.

فيلم سواق الأتوبيس من أهم أفلام السينما، فيحتل المركز الثامن في قائمة أفضل مئة فيلم مصري، والـ33 في قائمة أفضل مئة فيلم عربي

بالمقابل هذا ثاني فيلم أشاهده لعاطف الطيب، بعد فيلمه "البريء" الذي شاهدته قبل سنوات، ورغم متعة وجمال ذلك الفيلم، إلا أنه تسبب في أخذي موقفًا سلبيًا من سينما عاطف الطيب، وتسبب في تأخيري لسنوات رغبتي في متابعة بقية أفلام الرجل، إذ لم يعجبني في الفيلم حس المباشرة في مناقشته قضيته. ما أود قوله من كل ما سبق، أن فيلم "سواق الأتوبيس" يتميز بانتمائه إلى "الواقعية الجديدة" المصرية، والتي كان محمد خان وعاطف الطيب من أهم أقطابها.

و"الواقعية الجديدة" حسب الناقد السينمائي الفرنيسي أندريه بازين، هي حركة سينمائية تتميز بما يلي: المحتوى الاجتماعي، ورصد دور السياسة في التغيير الاجتماعي، والحس التوثيقي للمجتمع في فترة تصوير الفيلم (من خلال التصوير في الشوارع وسط المارة مثلًا)، وحس الأفلام الوتائقية في تقنيات التصوير وزواياه، والإكثار من استخدام الممثلين غير المحترفين.

و"الواقعية الجديدة" كحركة بدأت في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، كنتيجة لتدمير استوديوهات التصوير أثناء الحرب. وجميع هذه العناصر حاضرة هنا بقوة في فيلم "سواق الأتوبيس".

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الملك آرثر: أسطورة السيف".. غاي ريتشي التائه في عالم الفانتازيا

بالمقابل ما يعيب فيلم "سواق الأتوبيس" من وجهة نظري، أو بعبارة أخرى ما أتوقع أنه سبب رفض محمد خان لأفلمته، هو حس المباشرة في طرح قضيته، وسيطرة الفكرة الناقدة لقيم عصر الانفتاح على معالجة بشير الديك للشخصيات، بحيث تشعر أن بعض الشخصيات، وتحديدًا الشخصيات التي يمكن وصفها مجازًا بالشريرة، ما هي إلا قطع شطرنج يحركها بشير الديك لتوصيل فكرته.

ويميل فيلم "سواق الأتوبيس" بشكل صريح لتصنيف الشخصيات أبيض وأسود، ونتيجة لذلك شعرت في أكثر من مشهد بعدم واقعية بعض الشخصيات، وبمبالغة في شيطنتها. ورغم أن كلمة "الانفتاح" لا ترد في الفيلم كما ذكر الناقد حسن حداد في اقتباسه، إلا أن تصرفات الشخصيات تشير في كل مشهد إليها بشكل صريح.

أيضًا مما أعتقد أنه جعل محمد خان يرفض أفلمة السيناريو، هو سوداوية الفيلم، فأبطال خان رغم أنهم لا يختلفون في ظروفهم عن حسن "سواق الأتوبيس"، بل أن الكثير منهم ظروفه أسوأ، إلا أن هنالك دائمًا عندهم مساحة من الاحتفاء بالحياة وحبها، أما حسن هذا فلا نقطة مضيئة في حياته، حتى قصة حبه الملهمة ستطالها عجلة الانفتاح الاقتصادي وتسحقها.

أيضًا أعتقد أن محمد خان تردد في أفلمة الفيلم خوفًا من الدلالة الرمزية "لورشة أخشاب" المعلم سلطان، التي تقول بعض القراءات للفيلم أنها رمز لمصر، التي كانت واعدة في مسارها نحو التقدم، قبل أن تسقط بفعل الفساد، وتصبح مطمعًا للتجار والبيع والشراء.

فدلالة رمزية بهذه القوة يمكن بلعها من مخرج مصري كعاطف الطيب، لكن لن يستطيع "المواطنون الشرفاء" بلعها من مخرج باكستاني بريطاني كمحمد خان، وإن كان مصري الهوى والنشأة.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم Buena Vista Social Club: Adios دراما أساطير الموسيقى الكوبية

ولكن رغم مباشرة السيناريو، وليِّه لأعناق الشخصيات، وتصنيفها الاستقطابي لأبيض وأسود، يبقى فيلم "سواق الأتوبيس" تحفة خالدة تستحق كل الاحتفاء الذي نالته، للحس التوثيقي النابع من فلسفته المنتمية للواقعية الجديدة.

فيكفي أن تشاهد الفيلم لترى حقبة الثمانينات المصرية حية أمامك بكل تفاصيلها، من أحاديث الناس اليومية وأفكارهم وهمومهم، وشوارعهم وملابسهم، بدون أي تجميل أو رتوش، في أقوى تجسيد لدور السينما في خلق عوالم موازية، ونقلنا لنعيش حيوات لم نعشها.

ختامًا أترككم مع بعض الحقائق حول الفيلم:
- شتيمة حسن في المشهد الأيقوني في ختام الفيلم "يا ولاد الكلب" هي أول شتيمة في تاريخ السينما المصرية.

يكفي أن تشاهد فيلم سواق الأتوبيس لترى حقبة الثمانينيات المصرية حية أمامك بكل تفاصيلها، من أحاديث الناس اليومية وأفكارهم وهمومهم

- جائزة نور الشريف كأفضل ممثل في مهرجان نيودلهي، هي أول جائزة دولية لممثل مصري.

- يتأثر الفيلم بالفيلم المصري "العزيمة" (إنتاج 1939) والذي يعتبر أفضل فيلم مصري حسب قائمة أفضل 100 فيلم مصري، وحاول صانعوه جعل فيلم "سواق الاتوبيس" كأنه جزء ثان من فيلم "العزيمة". فتقول الناقدة أمل الجمل ما معناه أنه إذا كان فيلم "العزيمة" يدعو للفردية كحل للتغيير، فإن فيلم "سواق الأتوبيس" على النقيض يحتفي بالتكاتف الأسري والمجتمعي لتحقيق تغيير نحو الأفضل.

- يطلق نور الشريف على عاطف الطيب لقب "نجيب محفوظ السينما المصرية"، لاهتمامه بتصوير هموم الطبقة الوسطى المصرية، ورصد تغيراتها وواقعها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"هروب اضطراري".. حضر الأكشن لكن السيناريو ضائع

نصيحة سكورسيزي للسينمائيين الشباب.. 9 أفلام أجنبية خالدة عليك مشاهدتها