ترجمة لمقال بعنوان "The novel was a dominant art form last century"، منشور في مجلة "إيكونوميست"، عن كتاب "أغرب من الخيال" (دار فارار، شتراوس وجيرو) لمؤلفه إدوين فرانك.
"الرواية ماتت"، "الرواية تحتضر"، "الرواية قتلها التلفزيون"؛ كلها شكاوى مألوفة ومريحة بطريقة ما، لأن القلق بشأن مصير الرواية ليس جديدًا. ولأن القارئ الذي يمدّ يده إلى جهاز التحكم بدلًا من كتاب بعد العشاء، يشعر بأنه لا يزال جزءًا من التيار السردي السائد في الثقافة، لا مجرد شخص مسترخٍ على الأريكة.
في الواقع، الروايات لا تموت. فالمكتبات تمتلئ باستمرار بأكوام من الإصدارات الجديدة. لكن ما تغيّر هو مكانتها الثقافية؛ إذ لم تعد تحتل مركز الصدارة كما كانت في القرن العشرين، عندما كانت، بحسب وصف إدوين فرانك، محرر سلسلة “كلاسيكيات مراجعة كتب نيويورك": "الشكل الأدبي البارز، يجمع بين المكانة الرفيعة والشعبية، وكان يُنظر إليه كركيزة أساسية في الحوار الثقافي والديمقراطية الحديثة".
من الرواية الأخلاقية إلى التجريب الجريء
المكانة التي بلغتْها الرواية لم تأتِ من فراغ، بل من قدرتها على التحوّل ومجاراة روح العصر. ففي القرن التاسع عشر، ركزت الروايات على الأخلاق الاجتماعية والحياة الداخلية للشخصيات، تأمل أعمال جورج إليوت، هنري جيمس، أو أنتوني ترولوب. لكن مع دخول القرن العشرين، دخلت الرواية مرحلة النضج، إذ بدأ الكُتاب يعبّرون عن عالم يتغير بوتيرة متسارعة، عبر تجريب مستمر في الشكل والبنية والموضوع. كتاب "أغرب من الخيال" يقدم قراءة شاملة لتاريخ الرواية، ليس فقط كسرد لأحداث، بل كرحلة حية لشكل فني يتطور.
بينما كانت قصة الرواية في القرن العشرين حكاية انتصار فني واجتماعي، ستكون قصتها في القرن الحادي والعشرين حكاية أخرى: حكاية تحدٍّ، وإعادة اختراع، ومقاومة النسيان في عالم سريع الزوال
لحسن الحظ، لا يسرد فرانك الأحداث بطريقة خطية أو يحصر الأعمال الأدبية بسياقات زمنية صارمة، إذ إن الفن أوسع من ذلك. فالرواية التي تُكتب لغرض معيّن قد تنتهي بخدمة غرض آخر تمامًا. كما أن الروايات كثيرًا ما تحاور بعضها بعضًا، فـ"السيدة دالاواي" لفرجينيا وولف وُلدت من ضيقها برواية "يوليسيس" لجيمس جويس. ويلتقط فرانك هذه التفاعلات بذكاء، مسلطًا الضوء على كيف يتفاعل الروائيون مع أحداث العالم، أو يتجاهلونها أحيانًا (جويس، مثلًا، بعد عودته إلى ترييستي عقب الحرب العالمية الأولى، قال لأحد معارفه ببساطة: "أوه، نعم، قيل لي أن هناك حربًا جرت").
ولادة الرواية الحديثة
بحسب فرانك، فإن أول عمل بشّر بولادة الرواية الحديثة كان "مذكرات من تحت الأرض" لفيودور دوستويفسكي، الصادر عام 1864. بطله يثرثر، يتذمر، ويهوس، صادق عاطفيًا، لكنه لا يُعتمد عليه. الرواية تكاد تخلو من الحبكة، وتحاول التقاط روح عالم مشوّش، دون أن تقدم تلك الراحة والحلول التي كانت الرواية الكلاسيكية تمنحها. كانت هذه الرواية بداية الطريق نحو الشكل المفتوح الذي لا يخضع لقواعد ثابتة في السرد. وعلى الرغم من أن العديد من الروايات المعاصرة لا تزال تسير على نهج القرن التاسع عشر، فإن دوستويفسكي كان أول من بيّن أنها ليست مضطرة لذلك.
ظل صدى هذا النوع من السرد - الراوي المجنون، المتململ، غير الموثوق - يتردد على امتداد القرن العشرين. وبه ظهرت تقنيات “تيار الوعي” التي وظفها كل من جويس وويليام فوكنر. ولم يكن عبثًا أن ينشأ هذا الصوت الفوضوي في روسيا، لا في أوروبا الغربية. فبينما كانت أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى تنعم نسبيًا بالسلام والنظام والطبقات المستقرة، كانت روسيا تعيش عالمًا أكثر اضطرابًا، رغم محاولاتها محاكاة أوروبا. هذا التوتر أنتج أدبًا مختلفًا في عمقه وحريته.
روايات بين عالمين
تغيّرت ملامح العالم جذريًا بعد الحربين العالميتين، لكن الكُتّاب الذين وُلدوا قبل هذه الكوارث ظلّوا متمسّكين بفكرة الرواية كما عرفوها: وحدة، عمق، محاولة لفهم العالم لا مجرد تمثيله. هذا الصراع بين تصوّر قديم وعالم جديد غير مستقر، أنتج أعمالًا عظيمة. رواية "الجبل السحري" لتوماس مان (1924)، على سبيل المثال، تبحر في استطرادات وتأملات طويلة، ومع ذلك تحتفظ بصورة متماسكة لعالم يتفكك. أما "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، فهي بدورها، على الرغم من هدوئها الظاهري وتعقيدها اللغوي، تسعى بكل ما أوتيت من حساسية لتوثيق عالم آخذ في الزوال، حتى أدق تفاصيله، من الذكريات المجرّدة إلى طعم كعكة المادلين.
الكاتب السوفييتي فاسيلي غروسمان حمل ذات الروح الموسوعية، في أعماله مثل "ستالينغراد" و"الحياة والمصير". هاتان الروايتان تُعدّان من أبرز ما كُتب عن الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من بساطة أسلوب غروسمان، وتعمّده استلهام عظمة "الحرب والسلام" لتولستوي، فإن أعماله خضعت لرقابة صارمة، وصلت إلى حد المطالبة بحذف شخصية يهودية متعاطفة. توفي غروسمان في 1964، ولم تُنشر “الحياة والمصير” في روسيا إلا بعد 24 عامًا من وفاته.
ما بعد الرواية الكبرى؟
بعد الحرب، يتّجه استعراض فرانك نحو منعطف أكثر غرابة، فهو يمر مرور الكرام على أسماء كبيرة مثل سول بيلو، توني موريسون، وفيليب روث، بينما يخصص فصلًا كاملًا لرواية تجريبية وغير سهلة الهضم هي "الحياة: دليل المستخدم" للفرنسي جورج بيريك. ورغم غرابة هذا الاختيار، فإن أحد أبرز مكاسب قراءة "أغرب من الخيال" هو ذلك الحوار الداخلي الذي يدفع القارئ لخوضه مع الكاتب، اختلافًا واتفاقًا.
عدد النقاشات العاطفية التي يثيرها الكتاب دليل على أن الرواية لم تمت بعد في نظر كثيرين. لكنها لم تعد الشكل السردي الأوحد. فالدراما التلفزيونية، التي باتت أكثر تطورًا، دخلت المنافسة بجدارة لدرجة أن بعض النقاد قارَنوا أعمالًا مثل مسلسل "The Wire" بروايات تشارلز ديكنز.
لكنّ البيانات لا تكذب: ملايين الكتب تُنشر سنويًا، ومع ذلك فإن الوقت الذي يخصصه الناس للقراءة من أجل المتعة في تراجع مستمر. بين عامي 2017 و2023، تراجع متوسط الوقت اليومي الذي يقضيه الأميركيون فوق سن 15 في القراءة الحرة بنسبة 18% مقارنة بالسنوات التي سبقتها، ليصل إلى نحو 15–16 دقيقة فقط يوميًا. في المقابل، يتجاوز الوقت الذي يُقضى في مشاهدة التلفاز ساعتين ونصف يوميًا.
رواية هذا القرن: منبر جديد أم فن متخصّص؟
الروائيون في القرن الحادي والعشرين يواجهون واقعًا مختلفًا جذريًا عن أسلافهم. ففي حين استفاد كتّاب القرن الماضي من ارتفاع معدلات التعليم، وسهولة النشر، وانتشار المكتبات، وأدوات التوزيع الجماهيري، فإن كتّاب اليوم يتعاملون مع جمهور مشتت بين الشاشات، ومع طوفان رقمي يحمل آلاف البدائل القصصية في كل لحظة. صحيح أن الروايات ما تزال قادرة على تقديم ما لا تستطيع الأفلام والتلفاز تقديمه - كالعوالم الداخلية، وتعقيد اللغة، وبطء التأمل - لكن المنافسة باتت أصعب، والجمهور أشد تشتتًا.
وهنا يطرح فرانك سؤالًا مستقبليًا: ماذا سيكتب مؤرخ أدبي عام 2124 عن الرواية في القرن الحادي والعشرين؟
يرى أن الرواية، بدلًا من الانغلاق أو الانحسار، ربما تواصل توسيع آفاقها. فهي تنفتح الآن على مجالات جديدة: يدمج كولسون وايتهايد وهاروكي موراكامي الخيال الأدبي بأساليب تتجاوز الواقعية، بينما ينخرط ريتشارد باورز وكيم ستانلي روبنسون في ثيمات تتعلق بالطبيعة والعلم والبيئة. إن الرواية اليوم لا تختفي، بل تتغيّر.
من المحتمل أن تصبح قراءة الروايات هواية نخبوية، أقرب إلى حضور حفلة موسيقى كلاسيكية أو عرض باليه: متعة ذات طابع خاص، وليست ممارسة جماهيرية. فبينما كانت قصة الرواية في القرن العشرين حكاية انتصار فني واجتماعي، ستكون قصتها في القرن الحادي والعشرين حكاية أخرى: حكاية تحدٍّ، وإعادة اختراع، ومقاومة النسيان في عالم سريع الزوال.