21-فبراير-2020

لارا بلدي/ لبنان

مشهد الجنون

المياه تطرّزُ الطريق، لا سنابل تلوح قرب ضفة الرصيف. أقدامٌ تنغرسُ في بحيرات وردية. تَرى وجهك الملتصق في السماء على امتداد سحابة، تسحقه سيارة كأنه لم يوجد. تهرول مسرعًا قرب حائط مزين بأعلامٍ خضراء وصفراء باهتة، تتجنب الاصطدام بأي نقطةِ مياه تنزلقُ من أنبوب معلّق بمسامير صدئة لمحل خردوات قديم. طحالب كعيون المارين لزجة رطبة، لا تجد مكان لتستقر فيه.

أنظر يمينًا ويسارًا أركضُ مسرعة إلى فان رقم 4. قشور بيضاء في سقفه، الإضاءة سليمة، يمكنك الآن الاستعداد لرحلة قد تطول لأسباب اجتماعية ربما بسبب زحمة سير خانقة، أو لأسباب لوجستية غامضة.

يجلسُ أمامي مجنونٌ، ينظرُ إليّ، أتجنب النظر إلى عينيه، أخافُ أن أفقد عقلي يومًا ما. تذكرتُ صباحًا، حين قالت لي صديقتي التي تشاركني غرفتي: بكي شي؟ كدتُ أن أصفعها من شدّة غضبي. أرتعبُ كثيرًا من سذاجتها، ومن فرحها الدائم، وطاقتها الهائلة، في الصباحات، أو آخر الليل. إنها لا تفعل شيئًا. لا شيء سوى اتباع منهج جامعتها بشكلٍ حرفيّ، وتفوقها. أخافُ الجنون وارتكاب الجرائم. لا، لن أخاف أقول بصوت عالٍ، لماذا أصرّ آدم على صلب يسوع؟

ينظر اليّ الركاب بحقدٍ لقد قاطعتُ أعمالهم وألعابهم على هواتفهم الذكية. آه كم هم أغبياء..

أنّه يرطم رأسه في السقف، بماذا يفكر؟ السماء بعيدة والمكان ضيقٌ. والأحلام أكبر من الارضِ.

يعانقُ كلماته التي تخرجُ محرَجة إلى الوجود، مشهوّة كأنها قصيدة لشاعر حداثيّ، يقول لاحد الجالسين: جرب عطيني رقم هالبنت.

ثمّ يمرر إبتسامة ناصعة على عينيّ، وأبادره الابتسامة وهكذا نبقى.

أخرجُ منديلي، الطقسُ باردٌ اليوم، أمسحُ أنفي، ثمّ أنظرُ من النافذة إلى العالم حولي. العالم محاصرٌ في رأسي، العالم أصغرّ من عيني الكبيرتين، أو ربما لأنه سخيف. أعتدتُ أن أختزلَ منه تارةً الضجيج والمدن وكلّ شيء ليختفي وأختفي. وتارة أخرى أجمعه كله في رأسي فأدور وأدور إلى أن أسقط في الجنون وأبدأ بحفلة الصراخ.

نصفُ ساعةٍ من الجنون في فان رقم 4. أنطلقُ من "موقف الفانات" إلى "عين الرمانة".

 

رحلتي مع الكتب

أحبّ زهرة عبادة الشمس. أحبّ رأسها المليء وجسدها الهزيل، تشبهني، أو ربما أشبهها لا يهم، أحبّ احتراقها الصامت في الحقول على مرمى أشعة الشمس، هذا الانتحار الذهبيّ البطيء والساكن، والقويّ يغري امرأة مثلي، تضعُ على ركبتيها رواية: أزهار عبادة الشمس العمياء في فان رقم 4.

أصغي إلى الطرقات، تتنفسُ بسرعة وقلبها يضخُّ الدم كأنها في حالة سكرٍ فنميل بالباص على حافة الـ"ترتوار" تارة دون أن نصطدم في الهاوية، وتارة أخرى نستقر في وسط الطريق بين السيارات ودوي الضجيج وصفارة البوليسي ونذوب وننسى أننا كدنا أن نموت.

هل نخاف الموت؟ أسأل نفسي وأنا أنظر إليها على زجاج الباص المتسخ، غير واضحة المعالم.. هل نخاف الموت؟

لا، نخاف أن نفقد هذه الحياة السخيفة والمملة.

العيون معلقة تتسع وتضيق كلما مررنا في نفقٍ، عيون تشبه الدوائر التي رسمناها حين كنا أطفالًا نلعق بألسنتنا هذا الوجود القذر، ونضحك عليه بأسئلتنا.

 

لم نعد نطيق السؤال. لم نعد نطيق الذاكرة ولا الألم.

أفكر هل من أحدٍ سيهديني زهرة عبادة الشمس يومًا؟ أنني أحبّ الجمال. أحبه كثيرًا لأنه كالحياة. ورطتنا التي ننتظرها إلى الأبد.

 

القطار

أحبُّ صراخ آنا كارنينا، أحبّ مشهد ارتطام رأسها على سكة الحديد الفضية التي لم يكتب الراوي تفاصيلها. أحبّ الدماء التي تسيل إلى الأبد فوقها، أحبّ عينيها الواسعتين اللامعتين التي مرت عليهما عجلات القطار السريعة والتي استقرت فوق عنقها.

أحبّ هذا الصراخ الحزين والصامت، أحبّ هذه القرارات الهادئة والبسيطة والسريعة.

أضعُ رأسي على حافة الرصيف، يخيل لي أحيانًا وأنا واقعة في ورطة الانتظار، انتظار فان 4، أن أرمي بجسدي على الطريق ليسحقني. انتظره على عجلٍ، بيدي رواية "حكاية العين" لجورج باتاي، أراه من بعيد، كم يشبه القطار.. كم يشبه القطار. لكنه ليس كذلك.

الخطوة الأولى: أن أجرّ قدمي، ثمّ أختفي، لكنّ الخطوة كانت الوقوع على أحد ركاب الفان، والاستقرار بين أحمقين.

هذه الحياة هي تجسيد لهستيريا الضحك ومشهد للرعب الحقيقي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أبواب للفرادى

الشاهدة تنتظر