24-يونيو-2022
الشاعر فادي العبدالله

الشاعر فادي العبدالله

يقول لنا فادي العبدالله في ديوانه "البياض الباقي"، الصادر حديثًا عن دار الجديد، إن الشعر هو فعل إسهاب متواصل، كما لو أنه عمل يومي، عمل أرشفة لحظات. لحظات فادي هي لحظات أماكن واشخاص وأطياف يعرضها بنغم. يقيم معها صيغًا ويلتقطها بحنية عالية، ويدللها علها تبقى وتقيم في حضنه.

غير أن نصوص فادي تتقفى البَقية في أثر الأشياء والأحباب والأماكن والأنفس. هي نصوص في الماضي وفي الغياب وعنه وعليه. نصوص تبحث عن بقية باقية أو غافية من هؤلاء لتحفظهم وتصحبهم إلى الحاضر، أو إلى لحظة النص ذاته. والبياض الذي يحاول فادي تظهيره هو بياض جوهر تآكله انجاز الزمن في مروره ولم يبق منه إلا القليل الذي تحتفظ به الحواس. وهو نص يعاند الذهاب إلى المستقبل بل يثابر في التقاط ما بقي شاخصًا وما عشعش في الحواس، ثم يعمد إلى بروزة كل هذا في جدار الحاضر.

زمن فادي العبدالله هو زمن متباطئ، مستقل عن الضوضاء وسرعة الأمكنة. زمن ينمو ويقيم في غفلة عن عنف الوقت في عبارات مشغولة بفتنة

وبهذا هو نص يحمل في بعضه حدادًا صامتًا يتمدد في النص، ولكنه حداد يأبى الانفعال المتصاعد والتبخر بعد الألم، حداد يعيش اللحظات في اندثارها إلى لحظات أخرى، دون سخط أو استشاطات. حداد يحافظ على توازنه في اقامته بين الخسارات دون غضب. فقراءة نص فادي نوع من أنواع الطرب الحزين الذي لا يعطي الانفعال مدرجًا للطيران، طرب مخطوط عبر سلالم لغة تضبط إيقاع الانفعالات.

فادي العبدالله

وزمن فادي هو زمن متباطئ، مستقل عن الضوضاء وسرعة الأمكنة. زمن ينمو ويقيم في غفلة عن عنف الوقت في عبارات مشغولة بفتنة. يرسم فادي نصوصه في وقته الخاص بحميمية عالية وبتأن وبرفعة عبارات تضع اللغة في وضعية متقدمة على خلفية موسيقية مرافقة تتبدل بتبدل الصور. وهو أيضًا نص سفر وترحال وزيارات إلى مسقط الرأس ومدن وأماكن وأجسام ووجوه يلونها فادي بأطياف دافئة وبنبرة حنونة تعلو بوقار عند الانفعال وتعود لتمارس هدوءها الدعي.

غير أن فادي في أوقاته هذه يبدو كأنه يلتقط مروره بين المناظر والأسفار والانتقالات، يوثّق وقفاته وسرحان حواسه وانشغال تأملاته. كأنه يقف بكامل أناقته لتلتقطه الكاميرا مع كلامه ومشاهده وحزنه. هي لحظة تسجيل متنقلة لمساحة اللحظة بغية التقاطها أكانت مكانًا عامًا أم خاصًا، حلمًا أم يقظة، أم لقاء أنفاس وأجسام. وهذا التسجيل هو انطباع عالي يوظف اللغة ومفرداتها المزركشة بغية تحريك لحظة الحداد وتمددها بشاعرية عالية، فيبدو الحداد بهيًا غير منتحب.

وفي هذا الحداد الخافت، يريد فادي أن يقول لنا إن القليل المتبقي كاف لنحب ونحسّ، بما في ذلك من مجازفة وتحايل لتطويع الأعصاب لتهدأ وتستأنس. فالانغماس باللحظة وأشيائها هو محاولة تصد لخسائر الماضي الآفل دون النظر إلى المستقبل أو السؤال عنه. وبهذا فإن النص فيه صناعة نوستالجية بانطباعية عالية، تحاول إبقاء الحاضر ممكنًا بالنظر المطول إلى الماضي في المشهد الملتقط، ومحاولة لصناعة صدى بليغ لحساسية العلاقة مع الأماكن والأحبة. وهذا الصدى هو ما يحاول إطالته ليصنع منه البياض الباقي.