28-يونيو-2019

أندرزج فروبليفسكي/ بولندا

يكاد الشباب لا يذكرون ذلك اليوم الذي قام به الشيخ الأكبر الذي له السمع والطاعة بإحضار عائلة "سين" إلى المدينة، وهي من أشهر عائلات الإجرام في مجتمعنا، مجرد جيوب من كلام معترض سمعت هنا وهناك، وقد استطاع في السنوات الأولى من إحضارهم لجمهم والسيطرة على تغلغلهم في المجتمع، يكادون لا يذكرون لأن واقع اليوم لا يذكر بالأمس، وذلك التدحرج التدريجي من مجتمع قروي عائلي يستطيع بضع كبار العائلات التحكم بمصير قرية كبيرة أو مدينة صغيرة انطوى إلى غير رجعة.

ليتطور إلى عشوائيات أخلاقية لا تجد ما يلجمها فتكبر في داخلنا لتتحول من طفيليات نغذيها، لنصبح نحن الطفيليات التي نعيش على هامشها وتحت رحمتها وحمايتها ونحج إليها لتحل مشاكلنا.

*

نحن لا نكبر حقًّا، نحن فقط نرتدي طبقات من الأقنعة فوق بعضها البعض. نكبر حتى يصلب عودنا وتفوح رائحتنا النفاذّة، كبصلة ناضجة بكامل قشرتها. كلما اقتحمت طبقة زادت الأبخرة التي تبعث على البكاء، حتى تباغتك فجأة طبقة أخيرة تنزعها فلا تجد داخلها أي بواق، مجرد فراغ كبير يحملق بك ببلاهة المستغرب من استغرابك!

"افحص صاحبك ببصلة، إذا أعطاك القشر وأخذ اللب معناها ما بيحبك"، هكذا علّمني والدي، لكنه لم ينتبه أن اللب أيضًا هو مجرد قشرة أخرى ذات كثافة أكبر قليلة ورائحة أكثر نفاذًا.

لا يستطيع الأقارب والمعارف التغلغل في جوفك كثيرًا، خاصة إذا كنت من النوع الصلد العنيد والمتقوقع.

وحدها الزوجة تمتلك المفاتيح لأبواب قشورك المقفلة، يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، تنتزع أقنعتك، يلزم الأمر الكثير من البكاء والعناء، لا أعرف إذا كان الأمر يستحق كل ذلك العناء، ولكنه حدث.

من بين تلك اللحظات التي تسقط فيها دفاعاتك، هي وجودكما وحدكما عاريين مجردين من أي قطعة حشمة بشرية تم استحداثها منذ نزلنا عن الشجرة، تمارس المنظومة التي طوّرها الكون على مدار خمسة مليارات عام من أجلك، المحافظة على جنسك وتطويره.

وطبعًا هذا الموضوع تبادلي، لحسن حظنا أن هنالك أنهارًا من المتعة تعبّ منها بينما تملأ حصّتك من "حفظ الجنس" وتفرّغ حمولتك الزائدة من الرغبّة المزروعة بك. كيف تطورت بنا تلك الرغبة؟ تجعلنا نلهث فائرين عندما تتأرج لنا قطعة قماش فوق الجسم النديّ تكشف قطعة زائدة تارة وتقطع كل خيوط العنكبوت الحداثية التي غزلناها لنقنع أنفسنا بوهم اختلافنا عن البعوض.

من بين الأعراض الجانبية للزواج هنالك لعنة الرتابة، تنخر سوسة الرتابة في روتينك الأسبوعي، لتشعر وأنت تلج ذلك المكان الحميمي الدافئ أنك تحلّ وظيفتك أكثر من كونك تمارس الحبّ، وعندما تصب زيت وصولك إلى ما بعد بعد القشرة الأخيرة، على نار الفتور والتباين في كل التفاصيل غير المحكية من حياتك، تتحول كل تلك التفاعلات إلى علاقة بين أشباح كالتي نشاهدها في الأفلام الكرتونية، تدخل إلى الحائط لتخرج من الجهة المقابلة دون أن تشعر بشيء، ودون أن يشعر الحائط أيضًا بأي تغيير على وجوده.

يختار كل شخص قناعاته، يرتديها صباحًا، ويعلقها على المشجب قبل أن يخلد إلى النوم، وأنا كنت أستيقظ وزوجتي صباحًا، أرتدي لحيتي وإيماني الديني المطلق بصدق الجملة "الإسلام هو الحل"، بينما ترتدي زوجتي جلبابها وخمارها. تعمل هي في مدرسة لتحفيظ القرآن، بينما أذهب إلى كشك لبيع الفلافل وسط المدينة.

*

كما أسلفت لكم، بعد ثلاثين عامًا من ذلك اليوم الذي عادوا فيه، أتاني أحدهم ليشتري الفلافل، جاء في ساعة يكون فيها العمل خفيفها، تناول رغيفه، وبدأ يتحدث معي كأنه يعرفني منذ سنين وهو الأشهر من أن لا يعرف، الشيخ "م"، شيخ دار "س" وزعيم العصابة، سألني عن البيع والرزق وعن أولادي وأعمارهم وغيرها من المواضيع الباخسة، قبل أن يستطرد بأنه يريد أن يعمل معي، والتجارة كما تعرفون بارك الله بها، وسيكون في الأمر خير لكلينا، فهو من بين أشغاله الكثيرة تاجر جملة، وقد عرض علي أن يبيعني المقتنيات بسعر أرخص مما أشتريها اليوم، كما وأن عملي معه سيوفر لي الحماية من "العاطلين"، كي لا يحدث لي ما حدث مع عائلة الفهلوي، وعائلة الفهلوي كانوا من أكبر تجار المدينة، وقد طردوا الشيخ مازن عندما عرض عليهم العمل معهم، بعدها بعدة أشهر تم إطلاق النار على متجرهم ليلًا، قامت المدينة ولم تقعد لأول حدث من هذا النوع، ولكن الاجتماعات واللجان الشعبية – التي شارك بها طبعًا الشيخ مازن – أسفرت عن مجرد بهرجات إعلامية وتظاهرات صغيرة، سرعان ما توقفت بعد أن فقدت قدرتها على اللحاق بوتيرة إطلاق النار المتسارع على متاجر إضافية، حتى تم تتويج الموضوع بحرق أكبر متجر في المدينة، متجر عائلة الفهلوي لم يبق على شيء، وهم طبعًا أبلغو الشرطة أن لا أعداء لهم رغم إلحاح التأمين على التحقيق، لم يتم ترميم المكان وبقي كما هو ليتفرقوا أيدي سبأ.

مرت كل تلك القصة في رأسي بينما أشغل نفسي بتقطيع رأس البندورة بالسكين، الذي تخيلته يخترق قلب الشيخ مازن ويسيل عصير البندورة الأحمر ويتساقط على الأرض دون أن أنتبه.

دعاني إلى بيته لنتم حديثنا بخصوصية أكبر، خاصة أننا شيوخ زي بعض.. سيكون سهلًا علينا أن نتفاهم. حياتنا بمجملها قفزات فوق فجوات ونتوءات الواقع، نقفز من حفرة لنقع في أخرى، بمحاولة لبلورة أحلامنا، وقد كانت تلك قفزة بهلوانية قلبت حياتي رأسًا على عقب، يوم دخلت بيته لأجد فيه آخر ما كنت سأبحث عنه هناك.

أحضرت القهوة سافرة الرأس، ولم تعر أي اهتمام لنظرات أخيها التي كانت لتدخل الرعب في قلب أعتى رجال المدينة، فصار يستغفر ويتمتم، قبل أن نعود لدراسة الجدوى الاقتصادية من تعاملي التجاري معه. صارت زياراتي له أسبوعية بحكم العمل المتبادل، وخاصة لدفع ثمن البضائع له شخصيًا كونه في التعامل النقدي لا يثق سوى بيمينه، وارتفع ثمن البضائع باضطراد مستمر مسقطًا كل احتجاجاتي على ذلك بحركة دفع إلى الأسفل بيده اليمنى يسقط بها كل ادعاءاتي ويلجم بها خروجي عن موقعي، تأتي كعادتها سافرة الرأس تضع القهوة وتمعن في النظر مستغلة انشغال أخيها بأوراقه.

جاءت إليّ مرة لتشتري الفلافل وحين ناولتها الرغيف أمسكت يدي وشدّت عليها ووضعت بها ورقة، باغتتني تلك اللفتة، بلعت ريقي، رفضت أن أخذه منها النقود وهربت بنظراتي إلى شرائح البصل التي بدأت بتقطيعها.

بدأت مرحلة من تبادل الرسائل النصّية، هل من حق المرأة أن تعجب بالرجل وأن تختار هي الاحتكاك به؟ ماذا رأت فيّ حقًّا حتى يرسى اختيارها علي؟ يبدو أنني لست الأول ولا حتى العاشر الذي "تختاره" فلا أسرار في مدينة الأسرار هذه؟

لكن المصيدة التفت حول رقبتي لنتبادل الحوارات والنقاشات الدينية والفيديوهات الإباحية، قبل أن تطلب مني أن نلتقي حيث جهزت هي كل شيء وما علي سوى أن أحضر.

الشعور الطاغي هو الرعب، ليس فقط من أخيها، وإنما من سقوط كل مقومات ذلك البيت الورقي الذي بنيته حتى هذه اللحظة، الزوجة والبيت والأطفال والعائلة والأقنعة من القناعات وأطنان الأحاديث الفارغة في مبادئ أشعلت فيها النار، كلها أصبحت لا تساوي عندي جناح بعوضة، أرميها خلف ظهري أمام ساعة من الزمن أنهل بها من هذا الجسد الماجن المهتّك.

عبثًا تهت أبحث عن مصدر حقيقي لتطور هذه العلاقة الماجنة، لتصبح إدمانًا لاحقًا، كل ما اعتلتني مرة زادت شدة رغبتي وتعلقي بها، صرت أهجس باسمها حتى كدت أنادي زوجتي به، تراجعت كل الأمور الحياتية لتصبح أمرًا ثانويًا مقابل مرور يدي على تفاصيل ذلك الجسد، علاقة مباغتة غير متوقعة، لتفاجئني مثلًا مرة بينما أسوق في المدينة البعيدة وهي بجانبي لتلتقم قضيبي دفعة واحدة، لأفقد سيطرتي على الاتجاهات وأتوه في شوارع الربّ لا أنتظر نهاية. علاقتنا كانت دومًا غير متوقعة، مفاجآت الرغبة اللذيذة، تجعل الجسد يفرز كل تلك الهورمونات المسببة للسعادة، حتى علاقتي بزوجتي وأطفالي تحسنت بأعقابها رغم غيابي المتكرر عن البيت الذي بدا كأنّاتٍ ضعيفة في بيت يكون للرجل كل الحقّ في تحديد ساعات تواجده به.

كانت كعلبة المعجون تعتليني بحركات بهلوانية وبتشكلات غريبة لم تخطر لي على بال قط، وسرعان ما وجدتني أسترسل في ممارسة تلك الألاعيب لتنتج كميات من النشوة لم أحلم بها مع تلك المخلوقة المسكينة المدعوة زوجتي.

هل يكفي ذلك الجذب الجسدي لتصبح العلاقة حقيقية؟ فاجأني الجواب عندما كنت أجد نفسي غير راغب في التزحزح من جنب ذلك الجسد اللذيذ الذي قضيت وطري منه توًّا، ولكن ما زالت لدي رغبة في الالتصاق بها والتمتع برفقتها وجنونها.

لم أعد حتّى آبه لشكوى زوجتي التي أصبحت شلالًا من التذمر لغيابي، وتعذرعها بمطالبة أولادي بأبٍ في حياتهم.

كاشفتها برغبتي بالهرب سوية، ضحكت ضحكتها الماجنة، وسخرت مني ومن سذاجتي، فأخوها سيجدنا ولو كنا في الجحيم، وهي مطلقة ثلاث مرات ملولة ستحول حياتنا جحيمًا حالما تصبح علاقتنا رسمية، بل صدمتني عندما أخبرتني أن ذلك مؤشر على ضرورة إنهاء هذه العلاقة لأنها تطورت إلى ما هو بعد الرغبة الصرفة.

اختفت من حياتي كما دخلت.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنكح المرأة لأربع مالها وجمالها ونسبها ودينها.. وهكذا كانت زيجتي.

ولكني نكحت هذه المرأة وهي دون كل ذلك، وتمنيت لو تبقى معي. ولكنها بنفس السرعة التي دخلت حياتي اختفت منها، لم تعد تحضر القهوة، ولم تعد تظهر بتاتًا، وبما أننا في مجتمع لو أجاد من الفنون كما أجاد فن الكلام لكان له شأن عظيم بين الشعوب، فقد تعددت الأقاويل والنظريات.

سمعت من قال إن أخاها قتلها ودفنها سرًّا دون أن يجرؤ أحد على الإبلاغ عن اختفائها، وغيرهم قال إنها هربت وتزوجت من عشيق سري في بلد غير معروف، وآخرون قالوا إنه حبسها في بيت سري لا يدخله أو يخرج منه أحد، أما النظرية الأخيرة التي أحببت أن أصدقها هي أنها هاجرت لتعيش عند خالتها في كندا. عندما أتخيلها تعتلي صهوة شاب أجنبي وتصرخ من المتعة، يدب في السعار وأعود إلى زوجتي التي لم تفهم بعد سبب هذا التحول المباغت من البرود التام إلى الحرارة القصوى.

عادت المشاكل الزوجية المعتادة لتطفو على العلاقة التي كادت تختفي، لأشعر بسرور زوجتي الخفي أثناء صراخها علي، كأنه مكافأتها لي على عودة إلى رشدي ونزقي وعصبيتي المعتادة، نمارس لعبة الفراغ الذي خلّف انتزاع قشرة البصل الأخيرة، أما أنا فعدت لمحلّي ومشاغلي أبيع الفلافل وأرتدي أقنعتي منتظرًا تلك اليد التي ستنتشلني من حفرتي الحالية.

 

بعدها بعام كدت خلاله أعلن إفلاسي، أعلن أخوها أنه باع كل تجارة الجملة، وأنني في حل من أمري في اختيار التاجر الذي أشتري منه بضاعتي، ثم ليدخل بعدها بعدة أشهر السجن بتشكيلة من التهم كتجارة الأسلحة والحشيش والابتزاز، كما وتم الإيقاع به عن طريق شاهد ملك لتثبت عليه تهمة حرق محلات الفهلوي بعد خمس سنوات من حدوثها، ليستلم ابنه تولي أمور العائلة/العصابة بينما يقوم بتوجيهه من داخل السجن.

ها أنا واقف أطحن الحمص تحضيرًا لصنع الفلافل، وها هو الشيخ ن.ص آتٍ إليّ، فقد وصلت إلي أخبار انتقال المنطقة إلى سيطرته، بعد عدة قتلى لا بد من دمهم ثمنًا لنزعة البشر للمُلك.

ليحكمنا شيخ جديد، ففي مدينتنا لا مكان لغير الشيوخ لركوبنا. فيه، أتاني ليشتري الفلافل، جاء في ساعة يكون فيها العمل خفيفها، تناول رغيفه، وبدأ يتحدث معي كأنه يعرفني منذ سنين وهو الأشهر من أن لا يعرف، ومن حيث لا أدري وجدتني غارقًا في الضحك دون قدرة على السيطرة على نفسي والشيخ قبالتي مذهول من رد فعلي الذي لربما كان آخر ما كان يتوقعه منّي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تيهٌ مُعلقٌ على جدران الغفلة

من منّا؟ كم منهن؟