24-مايو-2019

الكاتبة العراقية حوراء النداوي

تصنع الكاتبة العراقية حوراء النداوي في روايتها "قسمت" (منشورات الجمل، 2018) من التهجير وفقدان الأمكنة وأزمات الهوية والانتماءات المتعدّدة موضوعًا تحكي من خلاله قصّة الكرد الفيليين في العراق. تصلنا القصّة عن طريق عائلةٍ نعرف أنّها منحدرةً من إقليم لورستان، وصلت إلى مدينة بغداد هربًا من والي الإقليم عام 1873 واستقرّت هناك لتكون من أصحاب الحضور المتجذّر في المدينة ذات الهوية العربية البحتة.

في روايتها "قسمت"، اختارت حوراء النداوي من آخر جيلٍ يسكن العاصمة بغداد من العائلة الكردية لتروي المأساة

اختارت النداوي من آخر جيلٍ يسكن العاصمة بغداد من العائلة الكردية لتروي القصّة/ المأساة عبره؛ إنّها عائلة الملّا غلام علي التي تسكن منزلًا لعائلةٍ يهودية هُجّرت منه أواخر أربعينيات القرن الماضي. يشكّل هذا المنزل ذاكرةً لعائلة الملّا غلام ويرسم لهم مصيرًا مشابهًا لمصير من سكنوه قبلهم، أي اليهود. وكأنّ المنزل منذورٌ ليكون مكانًا لطبخ وصنع المصائر القاسية، التهجير تحديدًا. فالعائلة، شأنّها شأن العائلات الكردية الفيلية الأخرى، هُجّرت من العراق أيام البعث إلى إيران بحجّة التبعية للأخيرة. وبين الحدود الإيرانية والعراقية، عاش الملّا غلام للمرّة الأولى الشعور بالاغتراب، فالإيرانيون رفضوا إعطاءه وعائلته الجنسية الإيرانية لأنّ أصله عراقيّ، والعراقيون طردوه لأنّه من التبعية الإيرانية.

اقرأ/ي أيضًا: في سوق السبايا.. الناجون يكتبون الحكايات

من خلال عائلة الملّا، تصوغ النداوي التحوّلات التي طرأت على العاصمة العراقية. تذكّرنا أوّلًا بأنّ العائلة اليهودية المهجّرة التي تسكن عائلة الملّا منزلها، هي واحدة من بين عائلات كثيرة هُجّرت من حيّ "الدهانة". ما لبث أن تبعتهم العائلات الكردية، لتكون عملية نزع هوية المكان وتجريده منها قد اكتملت. وكذلك الذهاب نحو الزجّ بالهويات الصغيرة في المعارك الكبيرة. وبين زمنٍ لليهود وآخر للكرد، تنشغل الكاتبة بمعاينة ومطاردة التفاصيل الصغيرة والمُهملة. هكذا، تخصّص الفصل الأوّل من العمل كاملًا لتفاصيل تؤكّد للقارئ وجود الكرد في بغداد، ومتانة حضورهم. ولكنّ الروائية العراقية لا تستطيع الإمساك طويلًا بخيوط وحركة هذه التفاصيل داخل العمل، ما يدفع بالقارئ نحو الشعور بالملل، وأنّ العمل الذي يقرأه أقرب إلى تقرير منه إلى رواية. يعني ذلك أنّ النداوي صاحبة "تحت سماء كوبنهاعن" تُضيع وجهة الكتابة، وحين تُعيدنا مرةً أخرى إلى الحبكة، فإنّها لا تلبث أن تضيّع وجهتها مرّةً جديدة، ليتكرّر الأمر مرّاتٍ عدّة داخل الفصل الأوّل من عمل.

هكذا يُمكن التعامل مع الفصل الأوّل من العمل الذي يُلقي انتحار ابنة الملّا غلام البكر، قسمت وأولادها، في مستهلّه ظلالًا تراجيدية على العائلة والرواية. إنّها بداية زمنٍ لا يبشّر بالخير. هكذا شعرت قَيَم، شقيقة الملّا غلام. وتأكّد شعورها حين لحق أخوها رضا بابنة أخيه قسمت منتحرًا بعد أن أضرم النار في نفسه، حينما لم يعد قادرًا على مواصلة الحياة تحت سقفٍ واحدٍ مع زوجته سليطة اللسان. وباستثناء هاتين الحادثتين، مرّت السنوات على عائلة الملّا هادئة؛ زوّج بناته فرصت ومريم وبري، ورأى أولادهنّ يملؤون فناء المنزل، إلى أن جاء بركة، الرجل الذي عاد من الموت ليصير قارئًا للغيب، ليخبرهم بأنّ هذه البلد لن يعيش بسلام، وسيصل غبار خرابه حتّى السماء.

تتحوّل حياة جيل ما بعد التهجير ممن كانوا أطفالًا في العراق إلى أسئلةٍ وإشاراتٍ استفهامٍ كبيرة وكثيرة حول ماذا فعلوه حتّى تُسرق حياتهم منهم بهذا الشكل؟

إذًا كوّنت حوراء النداوي في الفصل الأوّل من العمل صورة كاملةً عن عائلة الملّا غلام علي، وجذوره الضاربة بقوّة في بغداد متوغّلةً في أكثر وأشدّ التفاصيل دقّة. أخبرتنا كيف انتحرت قسمت وأولادها. ومن بعدها عمّها رضا. وأي نصيب مكتوب لفرصت مقابل نصيب الصغيرة مريم. ذهبت كذلك نحو عرض سلوك أفراد عائلة الملّا، فظهر الرجال، رغم صلابتهم وعنف طباعهم، وعدم مبالاتهم، عاطفيين في سرّهم. بينما ظهرن النساء قليلات الكلام، يكثرن من الصمت والعمل، ولايفقهن الكثير من الأمور الزوجية، يصلن إلى نشوتهنّ حين يكرُّ الذكور من أرحامهنّ.

اقرأ/ي أيضًا: ميثم راضي.. باكورة النّار

بهذا الشكل سارت حياة عائلة الملّا غلام علي، قبل قرار تهجيرهم واقتلاعهم من جذورهم، ليبدؤوا رحلة بحثٍ طويلة عن أوطان بديلة. تتحوّل حياة جيل ما بعد التهجير ممن كانوا أطفالًا في العراق إلى أسئلةٍ وإشاراتٍ استفهامٍ كبيرة وكثيرة حول ماذا فعلوه حتّى تُسرق حياتهم منهم بهذا الشكل؟ وكيف يحق للآخرين تقرير مصيرهم وحدود وشكل وطنهم كذلك الأمر؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

4 روايات للمرأة وعنها

العراق.. التداوي بالفنون