قرار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا.. التداعيات السياسية والاقتصادية والإنسانية
14 مايو 2025
في خطوة وُصفت بـ"المفصلية"، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من الرياض، عن رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، واضعًا حدًّا لواحدة من أكثر أدوات الضغط السياسي والاقتصادي التي استخدمتها واشنطن ضد النظام السوري السابق منذ عقود.
الإعلان، الذي جاء على هامش منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي، لم يكن مجرد قرار إداري، بل مثّل انعكاسًا لتحوّل أوسع في الرؤية الأميركية تجاه سوريا، وجاء استجابةً لجهود وساطة إقليمية قادتها قطر والسعودية وتركيا. وقد اتخذ القرار في ظل إدارة سورية جديدة تولت السلطة عقب سقوط النظام السابق، ما فتح الباب أمام سيناريوهات سياسية جديدة في المنطقة.
يثار التساؤل حول تداعيات هذه الخطوة على الداخل السوري سياسيًا واقتصاديًا وإنسانيًا، وعلى علاقات سوريا الإقليمية والدولية.
يرى محللون أن دعم الحكومة الجديدة اقتصاديًا وسياسيًا خلال هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة قد يكون فرصة تاريخية لإنهاء الصراع وبناء دولة مستقرة
التحولات السياسية المحتملة داخل سوريا
تشهد الساحة السياسية السورية تغيرات جوهرية. فبعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في كانون الثاني/ديسمبر 2024 وتولي قيادة جديدة زمام الحكم في دمشق، برزت تحديات داخلية تتعلق بمدى قدرة السلطة الانتقالية على تحقيق الاستقرار السياسي وبناء نظام حكم شامل.
الحكومة الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع حاولت طمأنة المجتمع الدولي بنيتها تنفيذ إصلاحات سياسية مثل إطلاق حوار وطني وإعلان دستوريجديد يمهّد لانتخابات برلمانية تمثل كافة السوريين.
والجدير بالذكر أن وزير الخارجية السوري أسعد الشبياني قد صرّح أن سلطات دمشق بدأت فعلًا خطوات مثل توحيد الفصائل العسكرية والحفاظ على مؤسسات الدولة والشروع في حوار وطني جامع.
ويرى محللون أن دعم الحكومة الجديدة اقتصاديًا وسياسيًا خلال هذه المرحلة الانتقالية الحاسمة قد يكون فرصة تاريخية لإنهاء الصراع وبناء دولة مستقرة، إذا أحسنت السلطة الحالية استغلالها عبر نبذ التطرف وإشراك مختلف مكونات المجتمع.
إن نجاح التحول السياسي في سوريا سيعتمد إلى حد كبير على قدرة القيادة الجديدة على تحقيق مصالحة وطنية حقيقية وتجنب نزعات الانتقام والصراع الطائفي. الجدير بالذكر أن الأشهر الأولى بعد سقوط النظام السابق شهدت اضطرابات أمنية، منها هجمات متبادلة بين موالين للنظام السابق وقوات السلطة الجديدة أوقعت مئات الضحايا، مما كشف هشاشة الوضع الأمني وخطورة الاحتقان الطائفي الكامن. لهذا فإن توسيع قاعدة الحكم لتشمل مختلف الأطياف وضمان الحريات والأمان لجميع المواطنين، هي خطوات ضرورية لتعزيز الاستقرار السياسي داخليًا.
وكانت الولايات المتحدة قد شددت علنًا على مجموعة شروط سياسية من جانب دمشق كمتطلب لتغيير موقفها، من بينها "نبذ الإرهاب وعدم الاعتداء على الجيران وإقصاء المقاتلين الأجانب ومنع استغلال إيران للأراضي السورية". واعتبرت واشنطن هذه المعايير ستكون مؤشرًا مهمًا على جدية التحولات السياسية المستقبلية في سوريا.
التأثيرات الاقتصادية وواقع الاقتصاد السوري
عانى الاقتصاد السوري انهيارًا حادًا خلال سنوات الحرب والعقوبات، وجاء رفع العقوبات الأميركية ليعطي بصيص أمل في إنعاشه. فقد انكمشالناتج المحلي الإجمالي من 67.5 مليار دولار عام 2011 إلى نحو 9 مليارات دولار فقط في 2023، أي بانخفاض يقارب 85% ، نتيجة الدمار الواسع والعزلة الاقتصادية. رافق ذلك انهيار للعملة المحلية، حيث فقدت الليرة السورية 141% من قيمتها أمام الدولار خلال الحرب، وارتفع التضخم لمستويات قياسية، مما أضعف القوة الشرائية للسوريين ودفع غالبية السكان نحو هوة الفقر.
وقد تفاقمت هذه الأزمات الاقتصادية بفعل العقوبات الغربية المشددة التي استهدفت قطاعات حيوية؛ إذ حظرت التعاملات بالدولار مع المصارف السورية بما فيها البنك المركزي، وطالت قيودها قطاع الطاقة والاتصالات وكل مجالات التجارة تقريبًا.
كانت سوريا ضمن أكثر الدول خضوعًا للعقوبات في العالم (إلى جانب إيران وكوريا الشمالية وكوبا)، مما جعلها شبه معزولة عن النظام المالي الدولي. لذا فإن إنهاء هذه العقوبات سيؤدي إلى تخفيف الضغوطات على الاقتصاد السوري، إذ سيُعاد ربط المصارف السورية عالميًا وتيسير انسياب التبادلات التجارية والاستثمارات الأجنبية للبدء بمرحلة إعادة الإعمار.
وبالفعل، أكّد خبراء أن إزالة القيود المالية الأميركية ستفتح الطريق أمام انخراط أكبر لمنظمات الإغاثة الإنسانية في التعاملات المالية بسوريا، وتسهّل تدفق الاستثمارات والتجارة اللازمة لبناء الاقتصاد مجددًا.
على صعيد الاستثمار، من المتوقع أن تبدأ رؤوس الأموال السورية المهاجرة بالعودة، إلى جانب مستثمرين أجانب ولا سيما من الدول الخليجية، مستفيدين من إزالة العقبات القانونية. وكانت قطر قد اقترحت تمويل رواتب موظفي القطاع العام السوري خلال المرحلة الانتقالية، غير أن هذا المقترح اصطدم بتعارض تلك التحويلات مع العقوبات الأميركية.
أما الآن، فمع زوال العائق القانوني، يُتوقع أن تمضي قطر وغيرها من الدول في دعم التمويل والمشاريع التنموية داخل سوريا عبر ضخ استثمارات في قطاعات الطاقة والتعدين والبنية التحتية، خاصة بعدما تعهدات قدمت بمبادرات استثمارية كبرى.
كما يُرتقب أن تشهد الليرة السورية نوعًا من الاستقرار النسبي مع زيادة المعروض من القطع الأجنبي وتحسن الثقة، وأن يستعيد القطاع المصرفي قدرته على العمل بعد رفع التجميد عن الأصول وعودة ارتباطه بشبكة السويفت الدولية (SWIFT).
تجدر الإشارة إلى أن تكلفة إعادة إعمار سوريا هائلة للغاية، إذ تُقدر ما بين 250 إلى 400 مليار دولار على الأقل، ما يفوق بكثير قدرات أي حكومة سورية بمفردها. وبالتالي فإن انفتاح الاقتصاد السوري على دعم واستثمار خارجي سيكون حجر الزاوية لتعويض دمار الحرب.
وقد بدأت بوادر ذلك أوروبيًا قبل القرار الأميركي، حيث وافق الاتحاد الأوروبي على تعليق بعض عقوباته عن سوريا في قطاعات الطاقة والكهرباء والنقل والقطاعين المالي والمصرفي، في رسالة دعم لعملية انتقال سياسي شاملة وتعافٍ اقتصادي سريع.
كان المعوِّق الأكبر أمام التعافي الاقتصادي هو الإصرار الأميركي على عقوباته، مما أحجم المؤسسات الدولية والمستثمرين عن التعامل. ومع تغير الموقف في واشنطن الآن، يغدو الاقتصاد السوري على أعتاب مرحلة جديدة قد تسمح بتدفق المساعدات التنموية والقروض الدولية واستئناف التبادل التجاري الحر، وهو ما سيشكل دفعة قوية للخروج من حالة الجمود الاقتصادي التي طال أمدها.
التداعيات الإنسانية وإغاثة المدنيين
إن الوضع الإنساني في سوريا بلغ مستويات كارثية خلال الحرب، حيث دُمّرت البنية التحتية الأساسية وتدهورت الأحوال المعيشية لغالبية السكان. فوفق تقديرات الأمم المتحدة، أضحى أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، كما أن نحو 16.7 مليون شخص (حوالي 75% من السكان) بحاجة لشكل من أشكال المساعدة الإنسانية المنتظمة. كذلك تسببت الحرب في نزوح أكثر من نصف السكان من ديارهم داخليًا وخارجيًا، وأصبح اعتماد ملايين السوريين على مواد الإغاثة والإعانات الغذائية أمرًا حيويًا للبقاء على قيد الحياة.
في هذا السياق، فإن رفع العقوبات الأميركية يحمل أبعادًا إنسانية إيجابية مهمة. فطوال السنوات الماضية، ورغم الاستثناءات الإنسانية المحدودة، أعاقت العقوبات عمليات إيصال المساعدات بشكل غير مباشر نتيجة القيود المفروضة على التحويلات المالية والقطاعات اللوجستية.
وحتى عندما منحت واشنطن ترخيصًا لمدة ستة أشهر في مطلع 2025 لتسهيل بعض المعاملات الإنسانية، شملت تراخيص السماح بتحويل الأموال الشخصية إلى سوريا، بما في ذلك عبر البنك المركزي السوري، كانت نتائج ذلك متواضعة.
لكن الآن، مع إزالة العقبات المالية وعودة قنوات البنوك للعمل، سيتمكن عمال الإغاثة والمنظمات الدولية من توسيع نطاق أنشطتهم داخل سوريا دون التخوف من التعرض لعقوبات ثانوية.
ومن المنتظر أن يُساهم رفع العقوبات في تحسين قدرة السوريين على الحصول على المواد الأساسية والأدوية والمعدات الطبية مع انفتاح البلاد تجاريًا، حيث كان قطاع الصحة خاصةً متضررًا بشدة من صعوبة استيراد الأجهزة والأدوية المتطورة في ظل العقوبات.
كذلك قد يُشجّع تحسن الاقتصاد الكلي وبدء مشاريع إعادة الإعمار على عودة بعض اللاجئين إلى مناطقهم إذا توفرت فرص العيش الكريم، مما قد يخفف العبء عن دول الجوار التي تستضيف الملايين منهم.
ومع ذلك، ينبّه خبراء إلى أن الأزمة الإنسانية لن تُحل سريعًا بمجرد رفع العقوبات؛ فهي نتاج دمار هائل في البنى التحتية والخدمات، ويتطلب تجاوزها خطة شاملة لإعادة البناء والتنمية المستدامة. لكن بلا شك، إزالة القيود المالية الدولية تُعد بدايةً جديدة تمنح السوريين بارقة أمل في تحسن أوضاعهم المعيشية تدريجيًا.
الدور الأميركي في إعادة تشكيل العلاقة مع سوريا
يشكل تغيير الموقف الأميركي تجاه سوريا ركيزة أساسية في إعادة تشكيل المشهد السوري خارجيًا وداخليًا. فمنذ اندلاع الثورة عام 2011، قادت واشنطن حملة عزل دبلوماسي واقتصادي ضد النظام السابق، وصولًا إلى فرض حزم عقوبات مشددة ( قانون قيصر) بهدف الضغط لإسقاطه أو تغيير سلوكه. واليوم، بعد ما يقارب 14 عامًا، وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام واقع جديد في سوريا يتطلب مراجعة استراتيجيتها.
يمثل رفع العقوبات الأميركية عن سوريا فرصة تاريخية نادرة لانطلاقة جديدة نحو الاستقرار والازدهار. لكنه ليس حلًا سحريًا بحد ذاته؛ فالنجاح يتوقف أولًا وأخيرًا على قدرة السوريين - قيادةً وشعبًا - على معالجة جراحهم الداخلية والقيام بالإصلاحات الضرورية لبناء دولة حديثة جامعة. إن الدعم الدولي والإقليمي قد يوفر الأدوات والموارد، لكن توجيه هذه الموارد بحكمة لتحقيق المصالحة الوطنية والتنمية الشاملة هو التحدي الأكبر في قادم الأيام.
وإذا ما أخفقت القيادة الحالية في هذا الاختبار ولم تظهر تغييرًا حقيقيًا في نهج الحكم، فإن مخاطر الانتكاس تبقى حاضرة، وربما تجد سوريا نفسها أمام عزلة جديدة وصراع داخلي متجدد، مما يعني ضياع فرصة ثمينة لن تتكرر بسهولة. أما إذا نجحت في استثمار هذه الفرصة واستجابت لتطلعات شعبها بالإصلاح والبناء، فإن سوريا قد تشهد أخيرًا نهاية نفق أزمتها الطويلة، وتدخل حقبة جديدة من التعافي والسلام.