07-يونيو-2019

غلاف الكتاب

هناك العديد من المؤلفات المهمة حول كتب الآداب السلطانية (1)، إلا أن إبراهيم بوتشيش حاول بذكاء و"جرأة" اشتقاق خطاب فرعي واحد من الخطاب السياسي العام للآداب السلطانية وهو خطاب العدالة، واضعًا سؤال (اختلاف معنى العدالة بين سياق تاريخي وآخر) جانبًا، ليسلط الضوء على خطاب العدالة في تلك الآداب ويقدّم قولًا في ما سكت عنه المؤلفون سهوا ربما أو ترددا في الكتابة فيه.

الكاتب السلطاني لم يهتم أصلًا بصناعة المفاهيم أو النظريات بقدر ما ركّز على توظيف المقولات الحكمية والوعظية والشعرية من أجل التبرير للسلطان والدفاع عن استقرار الدولة واستمراريتها

يفتح بوتشيش ملف "خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية" مستهلًا بإقرار حول تعقيداته وغموضه الناتجين عن عدّة أسباب من بينها تداخل البعدين الديني والسياسي فيه، بالإضافة إلى الحمولات والملابسات التي صاحبت تكونّه وتمثلاته باعتباره "قولًا سياسيًا وإنتاجًا فكريًا جسّد حلقة من حلقات تاريخ الأفكار السياسية في الإسلام في أبعادها الثقافية والاجتماعية والأيديولوجية"(2).

اقرأ/ي أيضًا: هل صُنع العدو يجعلك تقتل بضمير مرتاح؟

يرى الكاتب بأن مساهمته الرئيسية تتمثل في محاولة تقديم مزيد من عمليات إعادة الترتيب للورشة المفتوحة أصلًا في هذا المجال المعتم وجعلها في دائرة الضوء، لا سيما تلك المساحة المتعلقة بمسألة العدالة. ويحاول اعتمادًا على أربعة متون من كتب الآداب السلطانية المختارة من التراث العربي الشرقي والغربي (وهي للماوردي والغزالي والحضرمي والمالقي) -والتي يختزل فيها الكاتب جميع الكتب السلطانية بافتراض تماثلها جميعها واعتبارها نوعًا واحدًا، غير كَلِفٍ باختلاف مذاهب ومشارب كتّابها- أن يجيب عن ثلاثة أسئلة رئيسية وهي:

  • ما مفهوم القول بالعدالة في متون الآداب السلطانية، وما هو شكل بنائه وحدوده؟ وما هي الموجهات الناظمة له؟ ثم ما هو مدى إمكان الكشف عن نظامه بوصفه قولًا سياسيًا؟
  • وما هي المرجعيات المولّدة لخطاب العدالة لدى مؤلفي الآداب السلطانية في لحظة التشكل؟
  • ثم هل ثمة موقع لحقوق الإنسان في خطاب العدالة لدى الكتاب السطانيين..؟ (ص9).

ويتبنى الكاتب عدة مقاربات منهجية للإجابة على أسئلته وفرضياته تتنوع بحسب تعبيره من قراءة البنية النصيّة، ومراعاة زمنيتها، وتفكيك نسيجها الداخلي إلى تشخيص خطاب العدالة، واستنطاق مضمراته.

العدالة في الآداب السلطانية: المفهوم والشكل والمحتوى

يرى بوتشيش بأن خطاب العدالة في الآداب السلطانية مؤسس من ثلاثة عناصر؛ الأول هو الطرف المطالِب بالعدالة وهو الكاتب السلطاني الذي يحاول تقديم دليل عملي للحاكم بخصوص مسألة العدالة بحكم موقعه من السلطان. والثاني هو الطرف المطالَب بتطبيق العدالة، والمقصود به بشكل مباشر السلطان، الذي يحتاج الى النصائح التوجيهية من أجل استمرارية ملكه. والثالث هو موضوع الخطاب السلطاني وجوهره وهو العدالة.

لا يمكن للباحث أن يستشف من أدبيات الآداب السلطانية مفهومًا مضبوطًا ودقيقًا للعدالة كصناعة وممارسة سياسية

يتوصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن للباحث أن يستشف من أدبيات الآداب السلطانية مفهومًا مضبوطًا ودقيقًا للعدالة كصناعة وممارسة سياسية، وذلك لأن الكاتب السلطاني لم يهتم أصلًا بصناعة المفاهيم أو النظريات بقدر ما ركّز على توظيف النصوص الخبرية المتراصة في ثناياها المقولات الحكمية والوعظية والشعرية والعبر التاريخية المتداخلة وغير المنتظمة أحيانًا المرتبطة بالعدالة من أجل التبرير للسلطان والدفاع عن استقرار الدولة واستمراريتها.

اقرأ/ي أيضًا: "عطب الذات" لبرهان غليون.. مقدمات للمآلات السورية

ويستشفّ الكاتب مجموعة من الموجهات الناظمة لخطاب العدالة، وهي أولًا أن السلطان هو المصدر المولّد للعدالة باعتبار أن البشر كما في النصوص السلطانية "عدوانيون طغاة" (ص17). ثانيًا، أن العدالة هي مسؤولية أخلاقية ومجرّد فضيلة لا تلزم السلطان دستوريًا أو قانونيًا، فهي بالتالي ليست تعاقدية إلزامية تنظم علاقة الطرفين ضمن إطار الحقوق والواجبات. وأن محاسبة الحاكم بخصوص تطبيق العدالة ليست محاسبة بشرية آنية إنما إلهية مؤجلة. وبالتالي فعدم تطبيقها لا ينزع عن الحاكم الشرعية إنما فقط تزيد من قيمته أكثر لو تمسك بها. ثالثًا، أن العدالة كما جاء في النصوص هي أحد أساسات بناء الدولة وقوتها وإحدى أدوات التوافق الاجتماعي والاستقرار والتنمية، إلا أن تلك النصوص التي تؤلف بين العدالة والتنمية حسب الكاتب، لا تحلل آليات هذا الترابط.

ويعتقد بوتشيش بأن كُتّاب الآداب السلطانية يختلفون قليلًا في تصوراتهم لهندسة العدالة وتقسيماتها، إلا أن العدالة لديهم بشكل عام تتضمن شقين، واحد شرعي وآخر سياسي. والمعادلة لربط هذين الشقين يلخصها بوتشيش حسب ابن رضوان المالقي أنه "بعدل السلطان تأمن الرعية على نفسها ويسود الاستقرار، وتزوّد خزينة الدولة بالجبايات، ما يساهم في تدبير الدورة الاقتصادية" (ص25).

المرجعيات المؤسسة لخطاب العدالة في الآداب السلطانية

يحاول الكاتب تحديد المرجعيات التي ساهمت في تشكيل وتطوير خطاب العدالة مع أن السؤال ذاته تمت الاجابة عنه وإن بشكل غير مباشر وخاص بخطاب "العدالة" وحده في كتب عديدة ركزت على المرجعيات المؤسسة "للخطاب السياسي" عموما كالتي ذكرناها في مقدمة المراجعة.

حيث يستند خطاب العدالة حسب بوتشيش الى عدة مرجعيات وهي؛ أولًا، "نمط الإنتاج الآسيوي" المعتمد بقوة في المجتمعات المائية التي يحظى الري الاصطناعي فيها بأهمية كبرى باعتبارها البيئة التي استنبتت الآداب السلطانية في تربة الاستبداد الشرقي (3).

يخصّص بوتشيش مساحة واسعة لـ"المرجعية الكونية" أو ما يسميه "بثقافة الآخر" كمرجعية ثالثة مؤسسة لنصوص العدالة

ويَعتبر مرجعية "المأثور الديني" المرجعية الثانية التي استخدَم من خلالها الكاتب السلطاني الدين أو المقدّس لإضفاء الشرعية على عدالة السلطان بحكم وقعها الخاص على ما يسميه الكاتب "بالذهنية الإسلامية"، وبالتالي فهي اعتمدت على النص القرآني والأحدايث النبوية لتدعيم خطابها حول العدالة ودور السلطان في حماية الدين. إلا أن الكاتب السلطاني لم يضع نفسه مرة بالمقابل رقيبًا على السلطان وعلى تطبيقه للأحكام الشرعية في العدل.

اقرأ/ي أيضًا: خيوط العُنف اللامرئية.. مُقاربة سلافوي جيجك

ويخصص بوتشيش مساحة واسعة لـ"المرجعية الكونية" أو ما يسميه "بثقافة الآخر" كمرجعية ثالثة مؤسسة لنصوص العدالة. حيث يؤمن بوتشيش بأن الكاتب السلطاني انحصرت مهمته في عملية "اقتباسِ" ونسجِ وتوليفِ النصوص الفارسية واليونانية إلى جانب الحكم الصينية والعهود الهندية والمحكيات العجمية -على الرغم من تنافر مشاربها الفكرية- من أجل إنتاج تصور متناسق مع المفهوم المركزي للعدالة في الإسلام بصيغة كونية تعجب السلطان ويجد فيها ضالته. وهنا يعبّر بوتشيش عن إدراكه لانتقاد فرانز روزنتال مفكري المسلمين في العصر الوسيط الذين فشلوا في الربط بين المستويين الميتافيزيقي والاجتماعي "للحرية"، ولم يستفيدوا من كتابات الإغريق بهدف استيعاب مفهوم "الحرية" وتحقيقها، بل أخذوا منها ما يشتركون فيه معها في مسألة الدفاع عن الحاكم المستبد وتمجيده. وهنا خلط متكرر في النص بين مفهومي العدالة والحريّة وكأنهما مرادفان لبعضهما.

وفي المرجعية التاريخية، المرجعية الرابعة لخطاب العدالة في الآداب السلطانية، يرى بوتشيش بأن كتب الآداب السلطانية في استنادها للمرويّات التاريخية لا تهدف الى خلق نظرية حول العدالة "بقدر ما تسرد حوادث ووقائع تاريخيّة مجزّأة، متشظّية وغير منتظمة، في زمنيتها، وغير موثّقة أحيانا" (ص40) على الرغم من تغطيتها لجميع الأزمنة والعصور، من نماذج عدل الأنبياء داود وسليمان حتى الوصول الى النبي محمد، ثم نحو الحقبة الراشدية والنموذج العمري، الى بعض النماذج المضيئة من تاريخ الأمويين والعباسيين التي نبشوا عنها في مرحلة الملْك العضوض حسب تعبير الكاتب.

الحاكم بين ازدواجية السلطة المطلقة والعدالة

يرصد بوتشيش السطة المطلقة للحاكم في الآداب السلطانية عبر جانبين يعبّران عن تداخل الدين والسياسة، هما أولًا؛ تميّز الحاكم وسموه عن الرعية أو البشر بتصويره مختلفًا عنها في سلوكه وطقوسه وخصائصه، فهو الرأس أو الروح والرعية هي الجسد، وذهبت بعض الكتابات من أجل تبرير الولاء للحاكم وشرعية سلطاته المطلقة بخلق مماثلة بين الله والسلطان. وثانيًا؛ حق الإمتياز الإلهي للحاكم وجعله أكبر من أي محاسبة أو مساءلة، فهو "خليفة الله في الأرض" (ص47) أو نائبه العادل أو ظله المكمّل لحضوره، الواجب طاعته ولو بالإكراه، والذي عصيانه هدم لركن من أركان الدين وباب من أبواب طاعة الشيطان. وفي هذا حسب بوتشيش أطروحة مناقضة لمبدأ العدالة، الأطروحة التي بدأت منذ العصر الأموي وقويت أثناء العصر العباسي وصارت جزءًا من "الذهنية الإسلامية" شيعتها وسنتها، والتي لا تزال مسكونة فيها -كإرث ثقيل- حتى يومنا هذا، والتي أسست لفكرة قبول "العقل العربي" بالحاكم المستبد العادل، فهي بالتالي أنتجت خطابًا مزدوجًا ووصفة تجمع بين متناقضات (التخويف والترويع) و(التودد والإحسان) والتي لم تستطع الوصول من خلالها الى النموذج العمري الحازم من غير استبداد.

إلا أنه لا بد من الإشارة هنا الى عدة أمور، أولها بروز الحاجة الى إطار مفاهيمي يلقي الضوء على مفهوم العدالة التي يحاول الكاتب البحث عن ظلّها في كتب الآداب السلطانية، بالإضافة الى إشكالية الخلط والتعميم المبالغ فيه ربما وعلى عدة مستويات في الفقرة السابقة، فالقبول بفكرة "الذهنية الإسلامية" أو "العقلية العربية" يتطلب تمييزًا ما بين هذين التعبيرين، وما بين السنيّ منهما والشيعي، ولا بد أيضًا من تحديد سياق ذلك العقل التاريخي والذهنية التاريخية، فالعقل والذهنية كلاهما قابل للتطور والتغيّر عبر الزمن.

حقوق الإنسان في خطاب الآداب السلطانية

يحاول بوتشيش استقصاء "حقوق الإنسان" إلى جانب خطاب العدالة من غير تنبّه مرة أخرى الى إشكالية تنزيل المفاهيم المعاصرة على عصر آخر. فمفهوم حقوق الإنسان أعقد من مفهوم العدالة وأكثر ارتباطًا بمفاهيم وأفكار لم تكن موجودة آنذاك كالمواطنة والديمقراطية وسيادة القانون والقوانين المحلية والدولية والمواثيق والإعلانات العالمية. ولذلك اضطر بوتشيش لاستبدال المفهوم سريعا أثناء بحثه "بحقوق الرعية" عوضًا عن "حقوق الإنسان".

يحاول بوتشيش استقصاء "حقوق الإنسان" إلى جانب خطاب العدالة من غير تنبّه مرة أخرى الى إشكالية تنزيل المفاهيم المعاصرة على عصر آخر

يرى بوتشيش بأنه ليس هناك أي جواب مباشر لحقوق الرعية في الآداب السلطانية، فقد ركزت الآداب في الخطاب على السلطان ووقفت من رعيته موقفًا دونيًا، ولم تخاطبه كفاعل إنما حسب الجابري عاملته "كمفعول به" وكذات تابعة لا تمثّل طرفًا جوهريًا في معادلة العدالة. فنظرة الآداب السلطانية الى العدالة تقوم إما على أساس تصور هرميٍّ للمجتمع كما عند ابن رضوان المالقي؛ يبدأ بالسلطان من أعلى الهرم ثم يتسع الهرم تدريجيًا نحو الأسفل ليضم حاشية السلطان وخاصته وصولًا الى العامة في قاعدته. أو على أساس معيار أخلاقي يعامل الناس بحسب طباعهم كما لدى الحضرمي، فكل طبع يستحق تعاملًا خاصًا، وهو بذلك لا يخرج عن إطار التقسيم الطبقي، فالكرماء طبقة واللئام طبقة والمتوسطون طبقة أيضًا. وبالتالي، فالعلاقات الحقوقية في الآداب السلطانية تقوم عمومًا على منظور "ينطلق من أساس طبقي مادي، على الرغم من غطائه الأخلاقي" (ط62).

اقرأ/ي أيضًا: "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيّلة" لعزمي بشارة.. تأصيل غير متخيل

غير أن بوتشيش أخيرًا، يرى بأن النص السلطاني سعى في مجال التظلمات الى تأطير حقوق العامة والرعية ضمن المرجعية الدينية. ما يعكس أن دائرة الشريعة هي الدائرة التي كانت تقف عندها -ولو نظريًا- صلاحيات السلطان في مجال العدالة، بالإضافة الى بعض الحدود في مجال العقوبات، والتي نصحت الكتب السلطانية السلطان بعدم تجاوزها عند إصدار أحكامه العقابية، مثل أن تكون العقوبة على قدر الجريمة. أما فيما يتعلق بحقوق السجناء فتحدثت النصوص حول العديد من الحقوق المتعقلة بطعامهم وكسوتهم وتفقد أحوالهم والتحقيق في أحوال سجنهم وتحسين ظروفهم وإطاق سراحهم ولو مؤقتًا لإعطائهم فرصة للتوبة وإصلاح النفس والرجوع الى طريق الصواب. غير أن الكاتب يذكر من غير دليل أن الحقوق سالفة الذكر ظلت في الواقع "نسيًا منسيًا" (ص67).

 

الهوامش

  1. أنظر مثلا كتاب: الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي للدكتور د. عز الدين علام وكتاب: دولة السلطان: جذور التسلط والاستبداد في التجربة الإسلامية، للدكتور أحمد محمد سالم، وكتاب: في تشريح أصول الإستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية، لكمال عبد اللطيف.
  2. إبراهيم القادري بوتشيش، خطاب العدالة في الكتب السلطانية (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 7.
  3. يقصد بوتشيش بنمط الإنتاج الآسيوي وجود سلطة مركزية مستبدة يتفرد فيها الحاكم بالسلطة ويعامل الرعية فيها كالعبيد عبر أساليب التخويف والبطش من أجل تعبئة العمالة الضخمة التي تُستخدم بدورها لإنجاز مشروعات الريّ الكبرى. حيث إنه على مر السنين ألفت الشعوب الشرقية عمومًا ومعها المجتمعات الإسلامية سلطة الطغاة وتأقلمت مع حكمهم وسلّمت لهم وصارت تمجدّهم. إلا أن الكاتب يستدرك الأمر وينوه بأنه لا يميل الى ترجيح كل جوانب نظرية "الاستبداد الشرقي"، بل يرجّح بعضها ويعرض شواهد من العصر الأموي-العباسي لتدعيم حجته.

 

المراجع

  1. بوتشيش، إبراهيم القادري. خطاب العدالة في الكتب السلطانية. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
  2. علام، عز الدين. الآداب السلطانية: دراسة في بنية وثوابت الخطاب السياسي. الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون، 2006.
  3. سالم، أحمد محمد. دولة السلطان: جذور التسلط والاستبداد في التجربة الإسلامية. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011.
  4. عبد اللطيف، كمال. في تشريح أصول الاستبداد: قراءة في نظام الآداب السلطانية. بيروت: دار الطليعة الجديدة، 1999.

 

اقرأ/ي أيضًا:

زيجمونت باومان.. نقد صلب لـ"الحب السائل"

عزمي بشارة.. في تفكيك داعش