10-مارس-2016

أحمد أيكنات/ تركيا

يسعى الإنسان دائمًا إلى إثبات وجوده في أحواله العامة في المجتمع، حيث يتلهف إلى العمل وإلى جعل أكبر عدد من الوجوه تراه وهو مجهَد أو مستغرق في شيء ما اجتثه من الوقت. يسعى الإنسان في الضوضاء والفوضى المجتمعية إلى توطيد أناه حتى لو بتخريبها في النهاية في كل طريق ومنبر.

يسعى الإنسان في الضوضاء والفوضى المجتمعية إلى توطيد أناه حتى لو بتخريبها في النهاية في كل طريق ومنبر

الإنسان الاجتماعي يفعل كثيرًا من هذا حتى يرضي أناه بالدرجة الأولى بغض النظر عن الهدف الأسمى وهو طلب الرزق، نراه يتعمد مسح العرق عن جبينه أمام الحشد، أو المبالغة في الانهماك حتى يُدخل نفسه في شاشة الكمبيوتر مثلًا، ولا يحاول إخفاء احمرار عينيه في كثير من الأحيان أو التخلص من النظارات الطبية المثبتة على عينيه بكيفيتها المميزة، أو تعمد إظهار التعب على وجهه.

اقرأ/ي أيضًا: أنا امرأة.. عنّفني!

الوحيد يفعل ذات الشيء... الوحيد الذي لا يملك كلامًا في حلقه، أو عملًا على مرأى من الناس حيث اختار أن يعمل في مجال لا يحتك فيه بكثير من الناس، يختاره ويحدده بحيث لا يواجه الآخر ويتفاعل مع عدد قليل منهم، عدد لا يتكلم معه إلا عندما ينجز عمله ويكون في الغالب طرف واحد هو مدير العمل. يشاغب بطريقة تحسسه وتشعره به، مثل أن يصدر ضجيجًا وهو يصنع الطعام أو يتعمد كثيرًا أن يسعل بصوت مرتفع أو يدندن ويغني بصوت مرتفع غير مكترث بشيء أو بأحد، أو يفتح قشرة الشوكولاتة بقسوة ويستمر في ثنيها، أو يتكلم مع الآخر الذي أتى إليه مؤخرًا بصوت مرتفع، بنبرة يحاول أن تكون أنيقة متوازنة، يضحك معه ضحكة مرتفعة مصطنعة يقوم بتأليفها في وحدته. حتى بذلك يُضجر الآخر من تصرفاته الغريبة التي دائمًا ما يعزيها إلى وجود الضعف لديه، الضعف الذي يفسره في عدم امتلاكه الحياة خارجًا (في المجتمع المأهول بالإنسان الاجتماعي)، التي يظن أنه يفتقدها، التي يظن الآخر أنها تكسر كل الثبات والعتمة داخله.

أن نلزم أنفسنا أحيانًا بالخروج، خارج عتمتنا المحببة والوحدة يسبب لنا فوضى في كل شيء، في تصرفاتنا، في داخلنا الذي لا يراه أحد، نرتبك من الآخر الذي جهلناه حتى كرهناه زمنًا، وننتظر الوقت كي نتركه، مع أنه صار أليفًا ومع أننا نتوق إلى الخروج منّا إليه، نتركه لأننا صببنا كل نقائض وحدتنا فيه، صرنا كائنات اجتماعية مؤقتة والهدف من ذلك هو فقط الهروب منا لبعض الوقت وليس كل الوقت؛ إذ حين نتركنا خارجنا كل الوقت نتسرب شيئًا فشيئًا إلى الضوء، ليصعب علينا في النهاية قراءتنا وفهمنا.

الوحيد حين يرجع إلى مأواه الذي لا يعرف هيأته، بسبب اعتياده عليه، حيث لا ينتبه مثل ما ينتبه إليه أحد آخر يأتي لزيارته، حيث يرى الأخير كثيرًا من التفاصيل التي تغبشت أو تلاشى معناها أمام الوحيد، مثل تغير مكان الطاولة المجاورة للسرير وابتعادها قليلًا عنه، أو تكوم الغبار على الكرسي، أو تجمع الغبش على المرآة وأشياء أخرى واضحة للآخر الآتي من الخارج المكتظ بالتفاصيل الكثيرة المتعِبة، ولا تتضح لهذا الذي تداخل مع هذه الأشياء.

كم من الشرور يمكننا تجنبها، إذا ما توقفنا عن تقديم أنفسنا كما لو كنا مكتفين بشخصنا بالذات!

من المرجح أن يصبح هذا الوحيد مع الزمن معالجًا نفسيًا لتكهناته ودراسته العميقة الانسيابية والتي التقطها بطريقة عفوية من عقل الإنسان وتصرفاته، برأيي سيصبح مرشدًا نفسيًا ممتازًا لو أراد، فهو أحيانًا في خلوته يخرج منه كليًا ويتخلل الآخر، ليصبح مادة معقدة مفصلة أمامه. وقد نجده يملك حقائق عن الحياة بأكملها أوسع من معرفة الآخر الذي يقضي وقته مأهولًا بالمجتمع الإنساني.

اقرأ/ي أيضًا: اقتلوا الطاغية الذي نحيا بفضله!

وفي أغلب الأحيان نجده حين يهمّ إلى الخروج من وحدته إلى العالم يثق بأول شخص يلتقيه، حيث بذلك يناقض نفسه، إذ رأى فيما قبل وهو سبب وحدته بلا شك أنه أنهى ثقته بغيره لكثرة ما خذله الآخر. يقول إرنستو ساباتو في كتابه "الممانعة": "ألا أشد ما تخفيه الأقنعة، من دموع! ولكم سيغدو القيام بحركة في اتجاه الآخرين، أمرًا سهلًا ويسيرًا، لو أننا نُقْدم على ذلك، ونحن نعترف في قرارة أنفسنا، بحاجة بعضنا البعض لتلك الخطوة، عوض تصنع القوة، وإظهار التماسك! ولكم من الشرور يمكننا تجنبها، إذا ما توقفنا عن تقديم أنفسنا كما لو كنا مكتفين بشخصنا بالذات، وتجرأنا على الاعتراف بأننا في حاجة حيوية إلى الآخر، كي نستمر في الحياة، تمامًا مثلما يكون العطشى في الصحراء، وهو بالفعل ما عليه حالنا!".

الوحيد في كثير من الأحيان يكون قد جرب ما لم يجربه الآخر، قد جرب وعرف حقيقة وجوهر الإنسان أكثر من ذلك الآخر، لقد مل الوحيد من الآخر إلى حد أن وجد الوحدة أفضل وأسهل، هو الذي يعلم ما سيقوله الآخر، وما سيظل يعيده، الوحيد يفكر بعمق أكثر عن الحياة في أغلب الأحيان بسبب عدم تأثير تصرفات الآخر وانفعالاته عليه، وأحيانًا نرى أن الآخر هو الوحيد، الآخر الذي تحيطه كائنات بشرية لا تفهمه وتعيقه في كثير من الأحيان فيجد نفسه وحيدًا جدًا. بذلك يكون مشابهًا للوحيد ولكن بفارق بسيط هو الحيّز والمكان الذي يختاره كل منهما، والنظرة التي تغلفهما أيضًا تختلف، ولكن أقول إن الوحيد في النهاية صار وحيدًا لأنه رأى أنّ عزلته مع نفسه أخفّ من الوحدة مع الآخرين حيث يكون الجهد بذلك أخفّ.

اقرأ/ي أيضًا:

موت في ذمة الرجل

تاريخ من الخرَس