08-نوفمبر-2021

لوحة لـ أنيكا جوفيداريكا/ البرتغال

يفصح عنوان هذه المقالة عن غايتها: الحديث، بشيءٍ من الإيجاز، عن صورة القذارة والقمامة وموقعهما في الأدب. إنها، بعبارة أخرى، محاولة للوقوف على المعاني والمفاهيم التي تحيل إليها هذه المصطلحات، وما يرتبط بها من عاداتٍ وممارساتٍ وطقوس، حين تُوضع في غير سياقاتها المعتادة.

رأى دون ريغوبيرتو في ممارسة التبرّز المجال أو الحيّز الذي تبدو فكرة "الكمال" عنده قابلة لأن تصير حقيقة

وتستند المقالة في محاولتها هذه إلى ثلاث رواياتٍ تشترك في منح هذين المصطلحين معاني صادمة، وغير مألوفة، من خلال ربطهما بالسعادة، والفردوس، والحرية، والموت. وهي: "امتداح الخالة" للروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، و"الحمامة" للروائي الألماني باتريك زوسكيند، و"حب وقمامة" للروائي التشيكي إيفان كليما

اقرأ/ي أيضًا: العناوين والتناص والإمكانيّات الإبداعيّة

"امتداح الخالة".. "التبرّز" بوصفه أحد مفردات السعادة

النظرة السائدة إلى رواية ماريو بارغاس يوسا "امتداح الخالة" أنها إما رواية إيروسية ناضجة، أو نص إباحي فج. وبغض النظر عن مدى صحتهما، تُغفل هاتان النظرتان أن الرواية، في جزءٍ كبيرٍ منها، إنما هي روايةُ سلوكياتٍ صادمة تتجلى، أولًا، في سلوك بطلها ألفونسو الذي أغرى زوجة أبيه ثم ضاجعها وأفشى لوالده، بشكلٍ غير مباشر، ما وقع بينهما. وثانيًا، في سلوك والد ألفونسو، دون ريغوبيرتو، ونظرته الإشكالية إلى مسائل مختلفة تتعلق بالحب، والجنس، والنظافة الجسدية، وغيرها. 

ولعل أبرز هذه المسائل، وأكثرها إثارةً للاهتمام، هو "التبرّز" الذي تناوله دون ريغوبيرتو خارج إطار القذارة والاشمئزاز وجميع ما يرتبط بهما. بل ورأى في ممارسته على أنها المجال، أو الحيّز، الذي تبدو فكرة "الكمال" عنده قابلة لأن تصير حقيقة. ذلك أن التبرّز، بالنسبة إليه، يتعدى مجرد إفراغ المعدة، بصفته حدثًا يوميًا معتادًا وعابرًا، إلى طقس مقدس يُمارس في وقتٍ محدد من اليوم. 

يمنح التبرّز دون ريغوبيرتو شعورًا عميقًا بالرضا والامتنان، إلى درجةٍ تدفعه إلى طرح سؤالٍ صادمٍ مثل: "التغوط، التبرّز، الخروج، أهي مرادفات السعادة؟" (ص 59). ثم الإجابة عليه، مباشرةً، بالقول: "أجل. لم لا. شرط عمل ذلك ببطء وتركيز مستمتعًا بالمهمة، ودون أدنى تسرّع" (ص 59). ورغم غرابة السؤال الذي وضع التبرّز في غير سياقه، وتعامل معه باعتباره أحد مرادفات السعادة، إلا أن دون ريغوبيرتو لم يكتفِ بذلك، بل تعدّاه إلى عقد مقارنة صادمة بين التبرّز والتطهر الروحي، على اعتبار أن الأخير، في النهاية، هو عملية تطهير للمعدة. وما يُراود الفرد من مشاعر بعد تطهيره لمعدته عبر التبرّز، لا يختلف، بحسب تعبيره، عما يُراوده بعد تطهيره لروحه في طقوسٍ تدور مدار الندم، والاعتراف، وطلب المغفرة.

والمثير في مقارنة دون ريغوبيرتو، أنها انتهت إلى اعتبار تطهير المعدة أقل التباسًا من تطهير الروح، والحجة هي استحالة لمس: "النجاسات النتنة التي يُخرجها الندم والاعتراف والتكفير، ورحمة الرب من الروح" (ص 59)، مقابل إمكانية حسم مسألة نظافة المعدة بمجرد النظر إلى: "الأشكال الأسطوانية الشهباء الغاطسة في تجويف معقد المرحاض" (ص 59). 

اعتبر بطل رواية "الحمامة"، جوناثان، أن جوهر الحرية الإنسانية مرهونٌ بامتلاك مرحاض يتيح للفرد الاحتجاب أثناء قضاء حاجته

"الحمامة".. في العلاقة بين التبرّز وجوهر الحرية الإنسانية

أفكار دون ريغوبيرتو وتصوراته حول التبرّز وطقوسه هي، في نهاية المطاف، نتاج مخيلة خصبة وفهم إشكالي لمعنى النظافة وجوهرها. وهي بذلك تتلاقى، إلى حدٍ ما، وفي الجانب المتعلق بالمخيّلة تحديدًا، مع تصورات جوناثان في رواية "الحمامة" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند. ولكن مع فارقٍ كبير يتمثّل في أن تصورات الأخير نتجت عن مخيلة يغذيها الخوف والتفكير المفرط في المستقبل، على العكس من الأولى التي تمخضت عن مخيلة تدور مدار الرضا والامتنان. 

اقرأ/ي أيضًا: النصوص من كواليسها

طُرح التبرّز في "الحمامة" ضمن سياقاتٍ مختلفة أقام جوناثان في ظلها روابط مثيرة بين التبرُّز والحرية، التي انساق إلى التفكير فيها تحت تأثير الخوف، والقلق، والغيرة التي شعر بها بينما كان يراقب متشردًا بدا له هادئًا ومطمئنًا بطريقةٍ جعلته يرى إليه على أنه: "تجسيدًا استفزازيًا لجاذبية الحرية وسحرها" (ص 43). غير أن امتعاضه منه، وغيرته من نمط حياته القائم على الاعتماد المطلق على شفقة الآخرين، لم يستمرا طويلًا، بل إنهما تحولا إلى مزيجٍ من الخوف والقرف، حين استعادت ذاكرته مشهد قضاء المتشرد لحاجته على طرف الشارع غير مكترثٍ بالمارة الذين كانوا يعبرون من أمامه.

أمام ذلك المشهد الذي كان: "مؤلمًا ومقرفًا ومرعبًا بشكلٍ يدفع جوناثان حتى اليوم إلى الارتجاف كلما تذكره" (ص 44)، أدرك بطل باتريك زوسكيند أن جدوى العمل، مهما كان شاقًا، تكمن في أنه يحمي الفرد، عبر الأموال التي يتقاضاها لقاء تعبه، والتي تمكّنه على الأقل من الحصول على مسكن ومرحاض؛ من الاضطرار إلى قضاء حاجته في أماكن مفتوحة. ذلك أنه لا يوجد شيئًا: "أكثر إيلامًا من الاضطرار إلى التعري والتبرّز في الشارع أمام أعين الناس" (ص 45). 

لم يقتصر طرح جوناثان على التعامل مع المرحاض بوصفه الإجابة على سؤال: ما هي جدوى العمل؟ وإنما تعدى ذلك إلى اعتبار أن جوهر الحرية الإنسانية مرهونٌ بامتلاك مرحاض يتيح للفرد الاحتجاب أثناء قضاء حاجته. وعندما يجرَّد الفرد من هذه الحرية، حرية التبرّز خلف بابٍ مغلق، فإن جميع الحريات الأخرى تصبح في نظره عديمة القيمة إلى درجةٍ تفقد عندها الحياة معناها، بحيث لا يبقى أمام الفرد من خياراتٍ حينها سوى الانتحار.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "غانيات بيروت".. رثاء مدينة ونجومها

"حب وقمامة".. تقليص البشر إلى عدمية النفايات

ارتبطت أفكار دون ريغوبيرتو وجوناثان حول التبرّز وما يتعلق به بظروف ومشاعر وعوامل نفسية عديدة أوحت لهما بها: السعادة والامتنان لدى الأول، والقلق والخوف عند الثاني. في رواية "حب وقمامة" للكاتب التشيكي إيفان كليما، نقع على شيءٍ مشابه ولكن حول القمامة وليس التبرّز هذه المرة. وإذا كان بطلا يوسا وزوسكيند قد وضعا التبرّز في غير سياقه، فإن بطل كليما رأى في القمامة وما يرتبط بها، طريقة جديدة في النظر إلى العالم والتعامل معه. 

بطل "حب وقمامة" شخصية معقدة لناحية تكوينه النفسي، ومواقفه المتناقضة تجاه الحياة. ذلك أنه لم يكن متفائلًا تمامًا، ولا متشائمًا أيضًا، وإنما نصف متفائل، ونصف متشائم. بل ومنقسم بين هذين الشعورين إلى درجةٍ جعلته يتأرجح بين رغبته الشديدة في شيءٍ ما، ونفوره منه في الوقت نفسه. 

والملفت في هذا الانقسام، بغض النظر عن أسبابه المتشعبة، هو الطريقة التي سعى بطل كليما من خلالها لا إلى التخلص منه بشكلٍ نهائي، بعدما أدرك صعوبة ذلك، وإنما الانشغال عنه وعن التفكير فيه عبر صرف الوقت في تأمل أشياء مختلفة، إلى الحد الذي يجعل من تأملاته هذه ولّادة أفكارٍ يؤجل عبر انشغاله بها مواجهة أزماته النفسية، وأسبابها، وما يتمخض عنها من تساؤلاتٍ تعيده إلى عجزه عن تحديد موقفه من الحياة، وفشله في إنهاء انقسامه بينت التفاؤل والتشاؤم.

ويمكن القول إن القمامة كانت أول ما تأمله بطل إيفان كليما بحكم عمله في تنظيف الشوارع، وهي مهنة رأى أنها قادرة على منحه: "طريقة جديدة غير متوقعة في النظر إلى العالم" (ص 8). وتحت تأثير احتكاكه المباشر بها يوميًا، وهيمنتها على تفكيره أيضًا، أعاد بطل كليما صياغة تعريفات وبناء تصورات مختلفة حول القمامة التي رأى أنها: "خالدة وهي تغزو الهواء وتطفو في المياه وتنحل وتتعفن وتتفكك وتتحول إلى غاز أو دخان أو هباب. إنها ترتحل في العالم كله وتبتلعه تدريجيًا" (ص 14). واعتبرها أيضًا: "عصية على الفناء على أي حال. إن القمامة مثل الموت، فما الذي يمكن أن يكون عصيًا على الفناء أكثر من الموت؟" (ص 17). 

إن أسوأ اساءة يمكن لإنسان أن يلحقها بآخر، بحسب جون سكانلان، هي تقليصه إلى عدمية النفايات

ولكن الربط بين الموت والقمامة لا يقتصر فقط على فكرة أنهما عصيان على الفناء، بل يتعداه إلى سياقاتٍ أخرى صادمة تتعلق بما خبره بطل الرواية داخل معسكرات الاعتقال النازية، وتحديدًا بالطريقة التي قضى بها أقاربه وأفراد عائلته داخل تلك المعسكرات: "ماتوا، سمموا بالغاز، وأحرقوا مثل نفايات" (ص 47). ولا يبدو أن الغاية من هذا الوصف، هو الإشارة إلى طريقة وفاتهم فقط، بل القول إنهم كانوا يعامَلون، في الأصل، بوصفهم أشياء عديمة القيمة، مرفوضة، غير مقبولة، ويجب التخلص منها عبر حرقها، مثل القمامة تمامًا. 

اقرأ/ي أيضًا: الأدب والسياسة.. هل يمكن فك هذا الارتباط؟

أدرك بطل "حب وقمامة" أن أقاربه وأفراد عائلته قد تحولوا إلى مخلفاتٍ مادية، وأشياء عديمة القمة، بينما كان ينظف الشوارع ويتأمل القمامة التي هيمنت على تفكيره، وأوحت له - بعدما هيمنت على طريقته في النظر إلى محيطه والتعامل معه أيضًا - بأن غاية النازيين من قتل أقاربه ومعارفه وأصدقائه باستخدام الغاز، ثم حرق جثثهم، ليست التخلص منهم فقط، وإنما تكريس الطريقة التي كانوا ينظرون من خلالها إليهم بوصفهم مجرد فضلات ومواد لا قيمة لها. وهذا، بحسب جون سكانلان وما استنتجه في كتابه "النفايات: مدخل إلى الخطأ والشك والعبث"، هو أسوأ: "اساءة يمكن لإنسان أن يلحقها بآخر: تقليصه إلى عدمية النفايات" (ص 28).

 

اقرأ/ي أيضًا:

أدب سالي روني.. الحميمية والأيديولوجيا إذ تجتمعان في كتاب

قراءة الأدب: الإحساس بجمال اللغة كقيمة معرفية