24-نوفمبر-2021

كاريكاتير لـ كيفان فارسي/ إيران

أقطن في بلدة (س) القريبة من مدينة (ك) التي خسفت بها الحرب وشردت أهلها. قليل منهم قطعوا طول البلاد وعبروا البحر إلى أوروبا.. المانيا، هولندا، السويد، النمسا.. حيث يعيشون هناك تحت المسمى الجارح: "لاجئون". وأكثرهم زحفوا على بطونهم إلى (س) حيث يقبعون تحت المسمى الذي لا يقل إيلامًا: "غربتلية".

يحصل اللاجئون على عزاء، وهو المتمثل بالجنسية، التي وإن كانت لا تجعلهم ألمانًا أو نمساويين أو هولنديين حقيقيين، فإنها تجعلهم أمام الدولة مواطنين

وفيما يعاني اللاجئون من قضية الاندماج، إذ يقفون أمام حائط وهمي وصلد في الوقت نفسه، فإن القضية في (س) غير مطروحة بالمرة، ليس لأن الاندماج هنا تحصيل حاصل، بل لأنه مستحيل أصلًا.

اقرأ/ي أيضًا: عن بعض البشر الذين لا يملكون وجوهًا كالكلاب

يحصل اللاجئون على عزاء أخيرًا، وهو المتمثل بالجنسية، التي وإن كانت لا تجعلهم ألمانًا أو نمساويين أو هولنديين حقيقيين، فإنها تجعلهم أمام الدولة هناك، أمام محاكمها وشرطتها وبلدياتها ومدارسها، مواطنين.. مواطنين من الدرجة الأولى.

أما في (س) فلا مواطنة ولا جنسية. الجنسية هنا لا تنتمي إلى حقل القانون، ولا إلى الحقل الدنيوي برمته. هي هوية أصلانية ميتافيزيقية مغلقة أبدًا، وبالتالي فهي لا تؤخذ ولا تعطى. هوية جماعات، هوية قبائل، والقبائل تقبل الأغراب على أنهم ضيوف، مجارون، موالي.. ولكنها لا تمنح أيًا منهم جنسيتها.

لا عزاء، إذًا، لــ"الغربتلية"، فسوف يبقون "غربتلية"، اليوم وغدًا وحتى بعد مئة عام..

ومع ذلك، ومع كل ذلك، لا يندر أن يخرج من أهالي (س) مثقف إنسانوي علماني يساري، مشبع بثقافة "ما بعد الاستعمار"، فيهاجم الغرب اللاإنساني، مستنكرًا صلفه، ومنددًا بعنصريته التي تحول دون إدماج اللاجئين..

هذا عن عمل مثقفنا المسائي، عندما يجلس أمام كمبيوتره ليدبج مقالة أو بوست ينشره على صفحته في الفيسبوك. أما في الصباح، وإلى ما قبل الظهيرة، فهو ينشغل، في مجالسه الخاصة والعامة، بتحليل الأثر التخريبي الذي سببه "الغربتلية" في التركيبة المدنية لبلدته، وتدميرهم لقيمها الحضارية، وإطاحتهم بالاستقرار القائم على التوازن الديموغرافي!

ولأن المصاب بانقسام الشخصية لا يعرف أنه كذلك، فالرجل يلعب كلا الدورين بكل ما أوتي من إخلاص وحماس، وفوق ذلك هو يعيش راضيًا عن نفسه وسعيدًا.

 

معلمنا التاريخ!

يحلو للبعض أن يصوروا التاريخ كمعلم وقور بعصا غليظة، وهو إن بدا قاسيًا فلا يمنح دروسه الذهبية إلا مقابل أثمان باهظة، فإن حكمته تنتصر في النهاية، وذلك عندما يصل بنا إلى الأجوبة الحاسمة والحلول الناجعة، كاشفًا لنا عما كان خفيًا عن أفهامنا.

يحلو للبعض أن يصوروا التاريخ كمعلم وقور بعصا غليظة، وهو إن بدا قاسيًا فلا يمنح دروسه الذهبية إلا مقابل أثمان باهظة

هكذا.. وكأن التاريخ قوة ميتافيزيقية مفارقة، تمضي قدمًا غير عابئة بأفعال البشر أو إراداتهم أو رغباتهم، تفعل فعلها فيما البشر لاهون غافلون، يصحون فجأة وإذا بـ"الدروس التاريخية" قد أينعت وصارت جاهزة للقطاف..

اقرأ/ي أيضًا: نشيد العولمة

يزدهر هذا "الفهم" اليوم فيما نحن نواجه طوفانًا يهدد الحدود والهويات والشعوب، غير أن المؤمنين بالتاريخ يهدؤون من روعنا، ويطمئنوننا، باسم معلمهم الجليل، بأن ما نشهده هو تكلفة ضرورية وثمن مستحق، وإذا كنا نركب الآن سفينة تائهة وسط عواصف عاتية، فإن المرسى سيكون حتمًا على بر الأمان، بل أن بعضهم يتبرع بوصف هذا البر الموعود وتعداد خيراته..

ولكن إذا قبلنا بهذه الصورة الكاريكاتورية للشيخ ذي اللحية البيضاء الذي اسمه التاريخ، فإن مروجيها مطالبون بإكمالها عبر استحضار نصفها الآخر، النصف الذي يتم تجاهله غالبًا، وهو أن أي معلم، ومهما بلغ من الحكمة والبراعة، لا بد له، كي ينجح في مهمته، من تلاميذ نجباء مثابرين ومنتبهين، يقدرون على التقاط الإشارات، وعلى استخلاص النتائج من المقدمات.. على الربط والتحليل والاستقراء..

فماذا إذا كان التلاميذ لا يحضرون الفصول الدراسية أصلًا، ثم يقوّلون معلمهم ما لم يقله، ويفبركون باسمه استنتاجات متعجلة وخلاصات ساذجة؟!

 

اقرأ/ي أيضًا:

ابني الذي يكره الكتب

عن الأدب والحرب