17-أكتوبر-2018

كشفت الحرب السورية عن الفشل الأصيل في بنية نظام آل الأسد (عبدالمنعم عيسى/ أ.ف.ب)

ألترا صوت - فريق التحرير

مرّ الوضع الاقتصادي السوري خلال الـ25 عامًا الماضية، بثلاثة مراحل مفصيلة أثرت على القدرات الشرائية للأسر من أصحاب الدخل المحدود، أو الأسر المصنفة ضمن معدلات خط الفقر، فقد كانت الأسرة السورية خلال تسعينات القرن الماضي، حين كان حافظ الأسد يستلم زمام السلطة، تتأرجح ما بين الطبقة الوسطى أو الفقيرة، نتيجة السياسات الاقتصادية التي كانت تعتمد على تقديم الدعم لأغلب السلع الغذائية، أو مجانية الطب والتعليم، وبعض الموارد الخدمية تيمنًا بتجربة الاتحاد السوفييتي.

عرفت سوريا خللًا في توزيع الدخل القومي منذ الثمانينات وحتى اللحظة، ولا يبدو أنه كانت هناك أية نوايا حقيقية لمعالجة هذا الخلل

ومع وصول بشار الأسد للسلطة منتصف عام 2000، بدأ الوضع الاقتصادي في الانحدار أكثر بعد التوجه لتطبيق سياسة اقتصاد السوق المفتوح، وإصدار قرارات لرفع الدعم على السلع الأساسية التي كانت الحكومة تقوم بدعمها، مقابل استمرار قيمة الأجور ضمن معدلاتها المتعارف عليها ما ساهم بخلق فجوة بين طبقات المجتمع السوري، وبدء تراجع الطبقة المتوسطة إلى المستويات الدنيا.

اقرأ/ي أيضًا: بسطات سوريا.. اقتصاد الظل والبسطاء والفساد

إلا أن ذلك لم يدم طويلًا، فقد دفعت المظاهرات السلمية التي قابلها النظام السوري بالعنف المفرط، بالبلاد إلى أزمة يستعصي حلها على المجتمع الدولي أثرت على الحياة الاقتصادية، وأدى بانهيار العملة المحلية إلى أدنى مستوياتها، ما ساهم بارتفاع الأسعار بنسبة تتجاوز الـ150%، بالإضافة لدمار البنية التحتية التي أثرت بشكل كبير على الواقع الخدمي الذي بدأ يستعيض عنه السكان المحليون بالخدمات الخاصة، الأمر الذي زاد من أعباء المواطن العادي.

 السياسات المالية الكارثية

يؤكد الصحفي المختص علي نمر في بداية حديثه لـ"ألترا صوت" على أنه كان يوجد خلل في توزيع الدخل القومي منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اللحظة، قائلًا: "أعتقد أنه لم تكن هناك نوايا صافية لمعالجة هذا الخلل لا في عهد الأسد الأب، ولا الابن، في إعادة النظر بمجمل السياسات المالية التي كانت كارثية بحق أصحاب الدخل المحدود".

ويرى نمر أنه إذا عدنا للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة بين عامي 1990 و2001، والتي ذكرت أن معدل النمو السنوي لدخل الفرد في سوريا يساوي 1.9% سنويًا، فذلك يعني أن سوريا كانت بحاجة لأكثر من 50 عامًا للوصول لمصاف بعض الدول الآسيوية، منوهًا إلى أن التقارير الأممية تتحدث عن حالة السلم لا الحرب كما هو الحال الآن.

أرقام المكتب المركزي للإحصاء مشكوك بها

ويعتبر نمر خلال حديثه أنه إذا اعتمدنا على معدلات النمو الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء بين عامي 1999 و2001، والتي تشير إلى 4.2%، أي أن "مضاعفة الدخل الوطني كان يتطلب 20 عامًا، في الوقت الذي كان المطلوب مضاعفة حصة الفرد مرتين خلال فترة زمنية قصيرة جدًا كي تتلاءم مع الحدود الدنيا الضرورية للحد الأدنى لمستوى المعيشة"، ورغم أن جميع أرقام المكتب المركزي للإحصاء كان "مشكوكًا بأمرها"، لأنها "بكل بساطة كانت تعبر عن سياسات النظام اقتصاديًا"، إلا أن أي تحليل اقتصادي كان يعتمد على الأرقام الصادرة عن المكتب باعتباره الجهة الوحيدة الرسمية التي كانت تصدر البيانات الاقتصادية.

منذ عام 1980 وإلى 2005 ارتفع سعر الدولار من أربع ليرات سورية إلى 50 ليرة
منذ عام 1980 وإلى 2005 ارتفع سعر الدولار من أربع ليرات سورية إلى 50 ليرة حتى وصل لأكثر من 450 ليرة بعد الحرب

ويشير نمر إلى أنه إذا أردنا تقييم وضع الأسرة السورية خلال تلك الفترة "فيمكن ربطها بالمشكلة المزمنة والمستمرة في سوريا ألا وهي الفقر"، حيثُ يتحكم 10% من السكان بقوت 90% منه. ويضيف نمر بأنه "منذ العام 1980 إلى 2005 ارتفع سعر الدولار من أربع ليرات سورية إلى 50 ليرة سورية، أي أنه تضاعف أكثر من 12 مرة"، وهو ما سبب "تراجعًا في القوة الشرائية للمواطن نتيجة التضخم أولًا، والارتفاع المتصاعد للأسعار ثانيًا"، كما قال.

هذا وقد كان ولا يزال التفاوت في القدرة الشرائية شاسعًا بين واقع الأجور وضرورات المعيشة. "نقطة التشاؤم عند الشعب السوري هي: كل شي بينزل وبيطلع إلا الأسعار إذا ارتفعت مستحيل تنزل"، يقول نمر.

التعليم والصحة لم يكونا أفضل حالًا

وفي سؤال عن الوضع الصحي والتعليمي، يستعين نمر بحديث للخبير الاقتصادي منير الحمش، الذي ذكر في أحد أبحاثه أنه "بدأت اللعبة الخبيثة مطلع الثمانينات مع لجوء الحكومة إلى تجميد الأجور وتخفيض دعم أسعار السلع الأساسية تدريجيًا، ومن ثم تخفيض مخصصات التعليم والصحة، وفي كل مرة كان يتبع الأسلوب الخبيث ذاته".

وينوه نمر إلى مقتبس منير الحمش، مؤكدًا أن الرقم الذي نشر في تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 كان "كارثيًا"، ومشيرًا إلى أن الدراسة الإحصائية أكدت على أن "تعداد الأميين الذين لا يتقنون القراءة أو الكتابة بلغ 2.4 مليون سوري". أما في المجال الصحي فقد جاءت سوريا في المرتبة الـ18 عربيًا، و143 عالميًا.

الليرة السورية تفقد قيمتها عند كل أزمة

وكان لتبدل قيمة صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي أثر أساسي على القدرات الشرائية للمواطن السوري، ويرى نمر في هذه النقطة بدايةً أن الاقتصاد السوري أساسًا هو "اقتصاد هش وفق كل المقاييس والمؤشرات"، ولذلك فإنه "من الطبيعي أن تكون الليرة السورية غير متينة وقوتها الشرائية ضعيفة، أو تفقد قيمتها الحقيقية عند كل أزمة مهما كانت صغيرة أم كبيرة".

منذ اندلاع الثورة السورية كانت "لقمة المواطن هي المستهدفة من أجل تركيعه، وبدأت تصل السلع متأخرة إلى أسواق المناطق الثائرة

وهو ما جعل من "جميع الإجراءات التي قام بها المصرف المركزي أن تكون حلول إسعافية، أو يمكن تسميتها بالتخدير الموضعي لتخفيف حجم الفجوة"، كما يوضح نمر، مشيرًا إلى أن أي "هبوط في قيمة الليرة يطفو على السطح حجم التوزيع غير العادل للثروة الأمر الذي كان يكشف النهب الكبير من قبل الجهات النافذة في الحكم والمسيطرة على قرارات المصرف المركزي واحتياطه النقدي".

اقرأ/ي أيضًا: عقارات دمشق.. الشقة بمليار ليرة والغلاء وصل العشوائيات

ويختم علي نمر حديثه لـ"ألترا صوت" بالإشارة إلى أنه في دراسة أعدتها هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا بين عامي 2003 و2004، ذكرت أنه "لم يتمكن حوالي مليوني سوري من الحصول على حاجاتهم الأساسية من المواد الغذائية وغير الغذائية"، مضيفًا أنه خلال "مدة قصيرة ارتفع الرقم لأكثر من 5.3 مليون شخص تحت خط الفقر، وهذا مؤشر أن الإصلاحات الاقتصادية لم تكن يومًا في مصلحة الفقراء".

استهداف "لقمة المواطن"

وإذا كانت الحالة الاقتصادية بشكلها العام قبل عام 2011، متأرجحة ما بين الصعود والهبوط بسبب السياسات الاقتصادية التي استهدفت أصحاب الدخول المحدودة بشكل أساسي، فإن القدرات الشرائية تراجعت بنسبة كبيرة ما بعد عام 2011، بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على النظام السوري، وتراجع سعر صرف الليرة السورية لأدنى مستوياتها، فضلًا عن حجم الدمار الذي أصاب المؤسسات الخدمية والبنى التحتية بشكل عام.

يرى الصحفي المختص ناصر علي في حديثه لـ"ألترا صوت"، أنه منذ اندلاع الثورة السورية كانت "لقمة المواطن هي المستهدفة من أجل تركيعه، وبدأت تصل السلع متأخرة إلى أسواق المناطق الثائرة، والتي تشهد مظاهرات عبر المصادرات والحواجز"، ومع ازدياد مستوى العنف والقصف الجوي والمدفعي بدأت المرحلة الأخطر، وهي "فرض الحصار مما أوصل أسعار بعض السلع لأرقام فلكية".

ويوضح علي، أن سكان الغوطة الشرقية التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة، لم يكن بمقدورهم شراء السلع الغذائية أو الخضروات، فقد بلغ على سبيل المثال سعر الكيلو الواحد من السكر 40 ألف ليرة، علمًا بأن سعر الكيلو الواحد قبل عام 2011 لم يتجاوز 100 ليرة، لكن سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار أثر على أسعار السلع الغذائية، ما أوصلها إلى هذه القيمة. 

وينوه ناصر علي إلى أن ارتفاع الأسعار في مناطق قوات المعارضة ساهم بحدوثه "بعض الفصائل المقاتلة في المقلب الأخر بالاتجار بلقمة الناس". في إشارة لسيطرة بعض فصائل ريف دمشق على الأنفاق التي كانت تستخدمها في إدخال المواد الغذائية إلى المناطق التي كان يفرض عليها النظام السوري حصارًا خانقًا، حيثُ عمدت الفصائل إلى فرض مبالغ مالية كبيرة مقابل السماح للتجار بإدخال المواد الغذائية إلى المناطق المحاصرة، كانت تجري بالتوافق بين جميع الأطراف بحسب تحقيق استقصائي سابق نشره موقع عنب بلدي.

ولفت ناصر علي إلى أن النظام السوري أوقف الدعم عن السلع التي كان يقوم بدعمها سابقًا، وهي تُصنف من السلع الأساسية مثل الزيوت والسكر والأرز، ومثلها ينطبق الحال على المحروقات التي ارتفع سعرها، مشيرًا إلى أن السوق المحلية اعتبارًا من عام 2011، باتت تشكو "من التسعير غير المنظم نتيجة الفساد وأدوات الاحتكار القوية".

ظروف اقتصادية صعبة في مناطق النظام

من الجهة الأخرى، كان السكان المقيمون في مناطق سيطرة النظام، أو المناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها لاحقًا، يعيشون ظروفًا اقتصادية صعبة، لأن دخل الموظف لم يطرأ عليه أي زيادة فيما الليرة السورية كانت تواصل انهيارها ونزيفها. ويقول ناصر علي إن راتب الموظف الذي له في خدمة الدولة أكثر من 10 سنوات، لم يتجاوز حتى الآن 35 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 80 دولارًا أمريكيًا!

فيما يحصل المتقاعد على مبالغ أقل، كون راتبه لا تطرأ عليه الزيادات السنوية والحوافز، هذا عدا عن المتقاعدين الذين يتقاضون رواتب قليلة كالعاملين في حقول التربية، ممن لا يحلمون شهادات عليا، فبالكاد تصل رواتبهم لحدود 15 ألف ليرة، أو ما يعادل 35 دولارًا.

أزمة في الخدمات العامة

ولم يقتصر انحدار المستوى المعيشي إلى أدنى معدلاته على مستوى السلع الغذائية بعد عام 2011، إنما امتد ليشمل باقي قطاع الخدمات، ويقول ناصر علي في هذا الشأن إن الرعاية الطبية "عاشت أزمة حقيقية في أغلب المناطق السورية، وشهدت مناطق المعارضة خروج أغلب المستشفيات بسبب قصفها، وانعدمت الأدوية الرئيسة للأمراض المستعصية كالقلب والسرطان والسكري والضغط وأدى فقدانها إلى وفاة الكثيرين".

ويضيف بأنه على الرغم من اختلاف الحال نوعًا ما في مناطق سيطرة النظام السوري، فإن "أسعار المواد الطبية ارتفعت بنسبة تجاوزت 100%، وفقدت عشرات الأصناف من الأدوية بسبب خروج معامل الدواء في ريفي دمشق وحلب من الخدمة"، وشمل ذلك أيضًا ارتفاع أجور العمليات الكبرى بشكل كبير رغم محاولة النظام الإسهام في تقديم الخدمات المجانية.

إلا أن هذه المستشفيات أثناء الحرب أو قبلها بحسب علي، "باتت تتقاضى أجورًا بنسب مختلفة، بعد أن بدأ النظام في مطلع 2007 بخصصة بعض المرافق الصحية"، فيما وصل أجور المستشفيات الخاصة للعمليات الكبرى إلى ملايين الليرات، فقد كانت عملية استئصال الزائدة الدودية تكلف 200 ألف ليرة سورية، بعدما كانت تكلف سابقًا نحو 50 ألف ليرة سورية.

ارتفعت أسعار العقارات في سوريا بشكل جنوني، حتى وصلت في بعض المناطق لملياري ليرة سورية!
ارتفعت أسعار العقارات في سوريا بشكل جنوني، حتى وصلت في بعض المناطق لملياري ليرة سورية!

ويشير علي إلى أن ذلك ينطبق على القطاع التعليمي، حيثُ دمرت اعتبارًا من عام 2011 نحو 70% من المدارس والمعاهد التعليمية، ما دفع بالأطفال في مناطق المعارضة لتلقي التعليم في المنازل والأقبية التي كانت تحميهم من القصف الجوي، وهو عكس ما كان سائدًا في مناطق سيطرة النظام التي استمرت لديه العملية التعليم لكنها "باتت تشكل عبئًا على كاهل المواطن، فتكلفة المستلزمات المدرسية وصلت لـ20 ألف ليرة سورية لتجهيز الطالب الواحد في المرحلة الإعدادية، أي أكثر من نصف راتب الموظف".

ولعل ذلك يندرج على وضع أسعار العقارات التي ارتفعت بشكل جنوني حتى أصبح امتلاك منزل للموظف العادي حلمًا صعب التحقق، حيثُ يوضح علي أن أسعار المنازل في منطقة مثل حي المالكي، الذي تسكنه البرجوازية السورية يصل لـ2 مليار ليرة سورية، أما منطقة البرامكة التي تعتبر واحدة من المناطق الحيوية في العاصمة دمشق فيصل سعر المنزل فيها إلى ما يقرب 180 مليون ليرة.

الليرة السورية تراجعت منذ بداية 2011

وفيما يتعلق بسعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي، فمنذ بداية 2011، تشهد الليرة انتكاسة مالية، حيث شهدت تراجعًا حادًا أمام الدولار في أول ستة أشهر بما يقرب من 15%، ورغم  كل محاولات النظام الإمساك بالبنك المركزي وسوق الصرف، إلا أن العقوبات التي بدأت مع اشتداد العنف وصلت بقيمة الليرة السورية من 50 إلى أكثر من 460 ليرة مقابل الدولار في هذه الآونة. وفي فترات متفاوتة بين عامي 2014 و2015 وصل سعر صرف الليرة السورية إلى 600 ليرة مقابل الدولار الأمريكي الواحد.

هذا الانحدار الذي شهدته الليرة السورية أدى بالضرورة كما يرى ناصر علي في نهاية حديثه لـ"ألترا صوت" إلى "ارتفاع كبير في أسعار السلع المحلية والمستوردة والتي دخل في صناعتها المواد الخام المستوردة"، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر البراد صناعة محلية في الوقت الحالي قرابة 200 ألف ليرة،  فيما كان سعره قبل الأزمة في حدود 40 ألف.

منذ بداية 2011، شهدت الليرة السورية انتكاسة كبرى، حيث شهدت تراجعًا أمام الدولار في أول ستة أشهر فقط وصل إلى 15%

لذا فإن هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار، ينعكس بشكل مباشر على الحياة المعيشية للأسرة السورية، إذ "لم يعد بإمكان المواطن أن يعود إلى ما يشبه حياته قبل الحرب بالرغم من حالة شبه الاستقرار الحالي بسبب هدوء أغلب الجبهات"، كما يقول ناصر علي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القطاع العام في سوريا.. من التأميم إلى جيوب "أهل" النظام

أطفال سوريا يصنعون الملابس في ظروف سيئة!