18-أكتوبر-2018

ارتفعت تكاليف المعيشة في السودان خلال شهور قليلة بما يقرب من 16% (بيتر آدم دوناليك)

كان السودان مرشحًا بقوة لأن يصبح سلة غِذاء العالم نسبة لما يتمتع به من موارد طبيعية وثروات هائلة غير مُستغلة، لكنه خلال الأعوام القليلة الماضية بات يستورد من الخارج جل مواده الغذائية بنحو ملياري دولار في السنة، وتدهورت نتيجة لذلك القدرة الشرائية للسودانيين بدرجة متسارعة، وفي المقابل اختل الميزان التجاري، وأصبح حجم الوارد أعلى بكثير من الصادر.

خلال الأعوام القليلة الماضية بات السودان يستورد جل مواده الغذائية من الخارج، بنحو ملياري دولار أمريكي في السنة

وظل معظم السودانيين يعتمدون في غذائهم على الذرة والدخن والحليب، بصورة أساسية، ولا تكاد تخلو مائدة الطعام من أصناف لحوم الضأن والماعز والزبادي الطبيعي، إلا أن موجة جديدة من الثقافة الغذائية استبدلت الذرة والدخن بالفراخ والخبز، والمطاعم الحديثة، إلى درجة أن فاتورة القمح المستورد لوحده وصلت لحوالي مليار دولار خلال العام الماضي، وبرزت بصورة كبيرة الفجوة بين الأجور ومتطلبات الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الأسعار في السودان .. محاولات لإنقاذ الجنيه وعودة "الحرس القديم"

إعدام الطبقة الوسطى

الاحتياجات اليومية من الأكل والشراب أي "قُفة المُلاح" بالتعبير السوداني، هي الهاجس الذي يشغل بال نورين صديق، وكل السودانيين. يقول نورين لـ"ألترا صوت"، وهو معلم في الدرجة الأولى: "خليها على الله"، فهو يتقاضى راتبًا في حدود أربعة آلاف جنيه سوداني في الشهر، أي ما يعادل 100 دولار. لكن هذا الراتب لا يكفي 10% من احتياجاته الضرورية، فيما يغطي التأمين الصحي نصف فاتورة علاج نورين، لأن الأدوية المهمة وثمن تذكرة مقابلة الطبيب خارج تلك التغطية، كما يغطي على نحو 40% من سكان السودان حتى الآن.

وقارن نورين بين اليوم والنصف الثاني من القرن الماضي، مشيرًا إلى أن الوضع في الماضي كان أفضل بكثير، وكان المُعلم "ميسور الحال"، على حد وصفه، لدرجة أن أغاني البنات كانت تتطلع إليه: "يا ماشي لي باريس جيب معاك عريس، شرطاً يكون لبيس من هيئة التدريس". 

ودحض نورين أي حديث عن وجود طبقة وسطى حاليًا في السودان، بقوله: "لقد تم إعدامها، والآن توجد فئة قليلة تستأثر على النصيب الأكبر من الثروة، بينما الأغلبية من السودانيين فقراء بالكاد يدبرون أوضاعهم المعيشية".

تظاهرات ضد الغلاء في السودان مطلع العام الجاري
تظاهرات ضد الغلاء في السودان مطلع العام الجاري 

وفي دراسة أعدها الحزب الشيوعي السوداني عن الحد الأدنى للأجور في عام 2017، توصل فيها إلى ارتفاع تكاليف المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أفراد، إلى 13 ألف جنيه شهريًا. وأوضحت الدراسة أن تلك التكلفة لا تشمل احتياجات مهمة مثل صيانة المنزل والأثاث والاتصالات والتثقيف والترفيه والمجاملات الاجتماعية واحتياجات غذائية أخرى مثل الفواكه.

فيما ارتفعت تكاليف المعيشة بحسب الدراسة، في الفترة ما بين تشرين الأول/أكتوبر 2017 وكانون الثاني/يناير 2018، بأكثر من أربعة آلاف جنيه، أي بنسبة 15.7%، بينما ظل الحد الأدنى للأجور ثابتًا عند 425 جنيهًا فقط، وهو ما لا يغطي سوى 3.1% فقط من تكلفة المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أشخاص.

التباهي بـ"الإنجازات"!

حالة الشظف والمعاناة التي لا تخفى، لم تمنع رجال الحكومة من التباهي بـ"الإنجازات" التي تحققت خلال ثلاثة عقود، هي عمر "ثورة الإنقاذ الوطني"، والتي تتمثل بحسب تصريحاتهم، في "ارتفاع عدد المدارس والجامعات والمستشفيات، بجانب وفرة السلع والخدمات واتساع مظلة التأمين الصحي والارتفاع النسبي في القوة الشرائية".

وظلت تلك "الإنجازات" سمة ثابتة في خطابات الرئيس عمر البشير الذي أشار في إحدى لقاءاته التلفزيونية إلى "عملية تنمية كبيرة شهدها السودان" في عهده، قائلًا: "حققنا نهضة كبيرة تمثلت في المطارات الولائية وسدود التوليد الكهربائي، والطرق، والاستثمار. كان عندنا أربع جامعات والآن أكثر من خمسين جامعة تستوعب حوالي 200 ألف طالب في العام".

وقطع الرئيس بارتفاع متوسط دخل الفرد السنوي من 350 دولار في عام 1989 إلى 2500 دولار اليوم. وقد أثار ذلك التصريح وقتها ردود أفعال هائلة ما بين مصدق ومشكك، بسبب التفاوت الهائل في الأجور وضعفها لدى موظفي القطاع الحكومي وارتفاع نسبة الفقر والبطالة أيضًا.

ومؤخرًا شهدت الأسواق السودانية فوضى في الأسعار، وارتفاعًا كبيرًا في أسعار السلع الضرورية تحديدًا. نتيجة لذلك لم يعد أحد قادرًا على ضبط مصروفات الشهر، أو الادخار كما كان يحدث في الماضي، بل أصبح التجار في حيرة من أمرهم، والأسر في حيرة أكبر، لأن المصانع والمستوردين يضعون أسعارًا يومية، بسبب تدهور قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، ورفع الدعم عن بعض السلع المهمة، ما خلق إحجامًا في عمليتي العرض والطلب خلال الأشهر الماضية، علاوة على أن أكثر فئة تضررت من تلك الزيادات هم المعاشين، الذين تحتجز أموالهم في البنك بالشهور، ويبلغ معاش الفرد الواحد منهم أقل من ألف جنيه سوداني، أي ثمن وجبة عشاء فقط في مطعم فاخر.

موجة غلاء طاحن

وكان مطلع العام 2018، هو الأسوأ بالنسبة للسودانيين، حيث غمرتهم فيه موجة غلاء طاحن، وأزمة اقتصادية غير مسبوقة، فبلغ العجز الكلي للميزانية الجديدة 28.4 مليار جنيه (4.11 مليار دولار).

وصادق البرلمان السوداني على رفع الدولار الجمركي المتحكم في أسعار السلع إلى 18 جنيهًا بدلًا عن 6.9 جنيه، فضلًا على رفع الدعم عن الدقيق، لترتفع نتيجة لذلك سعر قطعة الخبز إلى جنيه بدلًا من 50 قرشًا، فيما ارتفع سعر شوال الدقيق وزن 50 كيلوغرامًا من 167 جنيهًا إلى 450 جنيهًا، بجانب ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء وجميع المواد الاستهلاكية.

وتأثرت نتيجة لذلك القدرة الشرائية، فمن كان يأكل ثلاث وجبات اكتفى بوجبتين، ومن كان يذهب للطبيب مرة في الشهر، توقف عن تلك العادة وأصبح يشتري العلاج من الصيدلية مباشرة، فيما انتقلت العديد من الأسر الثرية للعيش في العاصمة المصرية القاهرة، لحالة الاستقرار الاقتصادي نسبيًا الآن بالمقارنة بالسودان. فضلًا عن ذلك انتشرت محلات البيع بالأقساط الشهرية بسبب ضعف الرواتب والبطالة وارتفاع معدلات التضخم.

ومن جهتها كشفت إحصائية رسمية عن أن نسبة الفقر في السودان وصلت إلى 36.1%. وأكدت الدراسة أن 25% من السكان البالغ عددهم 39 مليون نسمة، وفقًا لتقديرات 2016، يقبعون تحت خط الفقر المدقع. 

كشفت إحصائية رسمية عن أن نسبة الفقر في السودان وصلت إلى 36.1%، وأن 25% من السكان يقبعون تحت خط الفقر المدقع

ووفقًا لمراقبين اقتصاديين بدت الأوضاع كالآتي: الطبقة الميسورة في حالة سحب شره لمدخراتها من البنوك، أي أن الذي لديه قطعة أرض أو سيارة أو مبلغ بالدولار، وكان يدخره لمستقبل أولاده، بدأ بالفعل عملية صرفه لمواكبة متطلبات الحياة اليومية، أما الفئة الفقيرة والتي تضرب في الأرض كل يوم، فوصلت ديونهم حجم مدخرات الطبقة الميسورة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أزمة الخبز في السودان.. مقاومة بالحيلة لمناورات السلطة

من يقف وراء تفاقم الأزمة الاقتصادية في السودان؟