19-فبراير-2018

جي آر/ فرنسا

عناية فائقة

مريضاتُ السرطان الأربع، المستلقيات على أسرّة العلاج في الغرفة نفسها، يتنافسن في المحافظة على صورهن المحترمة أمام بعضهن البعض؛ فعلى الرغم من أنهن أمضين حتى الآن ما يزيد على عشرة أيام مع بعضهن في الغرفة ذاتها من المستشفى، فإنهنّ يتحفظن حتى النخاع عن سرد تفاصيل حياتهن الخاصة، ويكتفين بإبداء ملاحظات بسيطة حول العلاج، والتذمر من الألم والإرهاق بين الفينة والأخرى.

وحدها أم فتحي، عاملة التنظيف في المستشفى، لا تتحرّج أبدًا من بث لواعج قلبها كلما دخلت بأدوات تنظيفها الغرفة.

تُفرغُ دلو الماء على الأرضية، ثم ترفع كفّيها إلى السماء تجأر إلى الله بالدعاء، وتستحلفه بحبه لنبيه وملائكته، وبما أنزل من البيان والحكمة، أن يسخط أبا فتحي ويقصف رقبته، فأم فتحي مؤمنة بأنّ الله يقف إلى صفها في دعواتها.

تطوف بالممسحة المبتلة بلاط الغرفة، وتتأفف من كل منغصات الحياة، وما أكثرها. ثمّ تتوقف لتتذمر من قلة راتبها، وتنفث قهر قلبها على أعضاء إدارة المستشفى فردًا فردًا، فتحرق من تحرق منهم وتلعن عمر الباقين.

تتبادل المريضات الأربع، في كل مرة تزورهن أم فتحي، الابتسام الهازئ مرة، ونظرات الازدراء مرات أخرى، ثمّ تعود كل واحدةٍ منهنّ، بعد خروج عاملة التنظيف، إلى التحديق في سقف الغرفة والحنين إلى طعم الحياة، بسكّرها وملحها، وشايها وقهوتها، وسرورها وعبثها، خارج أروقة المستشفى، فيطلقن التنهّدات العميقة. وتجدد كل واحدة منهن، في الوقت ذاته، نيتها المضمرة بالإبقاء على صورتها المحترمة أمام الأخريات.

وحدها أم فتحي تخرج من الغرفة بعد أن تنهي عملها، يبرد عرقها المتصبب فتمسحه بطرف منديلها المعقوص خلف رقبتها، وتستغفر الله مؤمنة أنه سينسى، كما هي تنسى، كل ما سبق. ثمّ تغذّ الخطى إلى مطبخ الشغالات لترتشف مع زميلاتها كاسة الشاي براحة بال وصحّة، غير عابئة أبدًا بصورتها المُزدراة.

الصُّوَر

قبل العاصفة الشمسية التي أعادت البشر ألف عامٍ إلى الوراء، كان بوب وفيفي (اسماهما على الشبكات الإلكترونية) يعشقان صور بعضهما البعض على الفيسبوك والإنستغرام. الصور المُعدة جيدًا في إضاءتها وزوايا التقاطها، التي تُظهر النضارة، والأناقة، والاتزان وتشابه الذوق المفتعل بين العاشقين. الصور المُسقَط منها، بعناية ونية مسبقة، كل الاختلافات التي قد يكرهانها في بعضهما البعض، مثل مزاج فيفي المتخبط، الكفيل بتشتيت أي حالة حب، وأنانية بوب التي يزاحم بها الوحوش الكاسرة.

بعد العاصفة الشمسية التي أعادت البشر ألف عامٍ إلى الوراء، أصبح باجس وتفيدة (اسماهما الحقيقيان) يُطالعان بعضهما وجهًا لوجه، من فوق بلاطتين جرداوين، عاريين إلا من وريقات شجرٍ يستران بها عورتيهما، دون أن يجدا من الورق ما يكفي لستر ما اعتادت ستره كاميرات الزمن الغابر. يجلس كلٌ منهما قبالة صاحبه، يحدجه بنظرةٍ ملؤها خيبة الأمل، ثم يشيح بوجهه عنه متنهدًا بملل، ليس لديه ما يقوله.

أمّ العيال

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، الأولاد جميعًا نائمون، والبيت نظيفٌ كالفلّة، تجلسُ أمّ العيال بعد نهارٍ شاق أمام شاشة التلفاز وحيدة، تقلّب القنوات، وتتذكر ما أنجزته من المهام المنزلية منذ الصباح. تفعل ذلك أثناء انتظار زوجها المعتاد على السهر خارج المنزل حتى هذا الوقت المتأخر.

ريّ مزروعاتها الجميلة، توضيب الغرف وتنظيف الأرضية، إعداد ثلاث وجبات تعشقها العائلة من تحت يديها، غسل الملابس الذي لا ينتهي، نشرها، لمّها وطيها، كيّ عشرة بناطيل وخمسة عشر قميصًا، تدريس الأبناء ومتابعة واجباتهم المدرسية، ومهام أخرى كثيرة يتضمنها نهارها المنزليّ المضني، قبل هذه الراحة المسائية.

تجلس أمّ العيال مثل هذه الجلسة الوحيدة المتأخرة كل يوم تقريبًا. وفي انتظار زوجها الذي لا يبكّر بعودته أبدًا، تفكّر والحدسُ يذبح قلبها فيما قد يفعله أثناء كل هذا الغياب.

تُرسي بحثها التلفزيوني على فيلمٍ في إحدى القنوات، حيث ممثلان عاشقان يتبادلان أفكارهما بشأن هذه الحياة:

"يسأل الممثلُ الممثلةَ عن حال الإنسان في الحياة، فتجيبُ الممثلة: الإنسان في هذه الحياة كالحمار الذي يظل يلاحقُ قطع السكاكر، ولا ينتبه للعشب الأخضر الذي حواليه". ثمّ يضحك الممثلان العاشقان حتى يتعبا.

في حين تسحّ أمّ العيال الدموع الثقال بحُرقة، لأنّ الحمار المنفلت لجامه في مطاردة السكاكر، لا ينتبه أبدًا للعشب الأخضر الذي حواليه.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

حميمية في بغداد

جثة في ثلاجة