14-فبراير-2016

محمد حسنين هيكل

ستكون آخر لحظة وعي في حياته، أفاق من الغيبوبة، وطلب من نجله، أحمد، أن يدوّن أسماء تسعة من أصدقائه وتلاميذه، وقال له بصوت أنهكه المرض: "أبلغهم تحياتي". لا يريد الزميل محمد حسنين هيكل أن يرحل بهدوء ككل الراحلين، يشغل باله حتى وهو على سرير مرض الموت، الذي استسلم له بامتناعه عن الطعام والدواء، أن يترك حكاية يتناقلها الناس عنه، فالرجل أدمن الحياة والصحافة إلى حد إصراره على ترك قصة يفتش الصحفيون وراء خطوطها، يبحثون عن الورقة، وينفردون بقائمة التسعة المبشّرين بسلام هيكل الأخير.

هل يزعج هيكل من يأكل لحمه على الهواء مباشرة وعلى صفحات الجرائد، حيًا أو ميتًا؟

منذ أن نقل الكاتب الصحفي صلاح منتصر في مقاله بـ"الأهرام" تطورات الحالة الصحية لهيكل، وقال فيه: "كان الأستاذ هيكل قد تعرض فجأة قبل ثلاثة أسابيع لأزمة صحية بدأت في شكل مياه على الرئة وفشل كلوي استدعى غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعيًا، مما جعل الأستاذ يتوقف عن ممارسة طقوس برنامجه وعدم الذهاب إلى مكتبه الموجود في الشقة الملاصقة والممتدة لسكنه. وفي الأسبوع الأخير زادت آلام الأستاذ لدرجة جعلته يتوقف عن تناول الطعام"، والمعركة حول هيكل بدأت، بين من يقولون إنهم تلاميذه، ومن يقولون إنهم ورثته في المهنة، بين من انقلبوا عليه، ومن يتهمونهم بـ"أكل لحم الميتة".

المعركة حول جثة لا تريد أن تهدأ، مات هيكل صحفيًا في الوقت الذي بدأت فيه حرب العراق، حين كتب مقاله الطويل "استئذان في الانصراف"، الذي أصبح كتابًا لا تزال "الشروق" المصرية، تقدم طبعات جديدة منه، لكنه أطلّ على الصحف والشاشات برسائل وتحليلات ومعلومات عشرات المرات بعدها، حنينه إلى ورق الجرائد وضجيج المطابع حرّكه، ودفعه إلى تأسيس صحيفة "الشروق" برعايته وأموال أسرته، وظلّ داعمًا لها من وراء حجاب. هل يزعج هيكل من يأكل لحمه على الهواء مباشرة وعلى صفحات الجرائد، حيًا أو ميتًا؟

الذي يقول نعم لا يعرف نفسية الرجل الذي يحب أن يحتل نقطة النور، يقول إنه لا يقرأ ولا يسمع ما يقال ويكتب عنه، ويزعجه فقط ألّا يكون أمام الكاميرات وعلى صفحات الجرائد.. وهو بالفعل لم يخرج من اهتمامها أبدًا، ففي الوقت الذي قامت فيه ثورة يناير، ثورة الشباب، تصارعت القنوات الكبرى على مداخلة هاتفية منه ليقرأ كف المستقبل ويرسم خطوطه، واعتبرت الثورة بدأت من عنده.. من انقلابه على مبارك، ومنعه من التليفزيون والكتابة، بل منعه من الحياة في مصر لأن النظام يكرهه. 

صحيفة تصارع حتى الآن لكي تدفع رواتب الصحفيين والموظفين قالت إن الثورة بدأت من عزبة هيكل في برقاش، رغم أن أولاده كانوا شركاء جمال وعلاء مبارك في بيزنس عابر للقارات، وبسببه لا يزال ابنه، حسن، هاربًا إلى لندن، لأن اسمه على "قوائم الانتظار" في المطارات المصرية. 

لم تيأس القنوات من حضوره، منحته مساحة مفتوحة للكلام والتحليل وقراءة الطالع، فبدأ سلسلة لقاءات تليفزيونية لوضع تصوره للمستقبل.. المستقبل يرسمه رجل من زمن سعد زغلول، زمن البيشة والطرابيش وخمارات الاحتلال، أكل الدود أجسام أصدقاء طفولته، وهو يقول إن تاريخه وراءه، ثم يجلس أمام الكاميرا ليتحدث عن المستقبل، ويسدد اللكمات و"الشلاليط" للماضي، الذي صنع جزءًا من عقدته، وهي نقطة يستغلها أعداؤه للطعن فيه، إنما هي تحسب له.. إنه مطلوب في كل عصر، وصلاحيته لا تنتهي!

وصف هيكل بأن كل شيء بدأ من عنده، الثورة والغضب وهتافات الحرية والكرامة، جاء من طبيعة الكاتب الصحفي صديق السلطة

وصف هيكل بأن كل شيء بدأ من عنده، الثورة والغضب وهتافات الحرية والكرامة، جاء من طبيعة الكاتب الصحفي صديق السلطة، الذي ينقلب عليها فورًا إذا لم تستدعه لدور أكبر، وهو ما فعله معه حسني مبارك، ورأيه أن هيكل لا أمان له ولا أمان معه، ثم إنه يسرق النور من أي شخص يجلس بجواره، والرئيس المخلوع، معدوم الكاريزما، أدمن إلقاء سارقي النور والنار في السجون، أو منحهم "إجازة مفتوحة" من الصحافة والسياسة والحياة.

ورئيس تحرير الأهرام الأسبق من حي الحسين، ويبدأ برج الميزان بيوم ميلاده، 21 أيلول/سبتمبر. ويمكن أن تفهم شخصيته طبقًا لصفات برج الميزان: "سياسي يحب المناورات، ومنافق يخالف ضميره ويقول ما لا يعتقد ويعتقد ما لا يقول، ومدمن للقفز على السلطة، وطبيعته الهوائية تسيطر عليه، ويرى نفسه كلمة السر في البدايات والنهايات، ويملك الجواب الشافي لكل سؤال، وسحره يستحيل التحرر منه".

عاش هيكل في عصور ملكين وثمانية رؤساء، يسجل له أرشيف الأهرام والأخبار مقالات وتصريحات في مديحهم جميعًا، إنه صحفي جبار لا يطلب الوصال، الرؤساء هم من يطلبون وصاله ويدعونه ويستفتونه فيمدحهم، وحين ينقلبون عليه، ينقلب عليهم، ويتحرك حاملًا في قلبه وعلى لسانه رغبته في الخلود، ولم يشهد التاريخ لأحدهم أنه كسر شوكته.. لأنه اقترب ورأى.

اقرأ/ي أيضًا:

في جلد عبد الناصر

في الغباء كما لم يرد في كتب السياسة!