31-أغسطس-2021

تمثال تشي جيفارا في غاليسيا الإسبانية (Getty)

نشرت مجلة ذي نيشن الأمريكية قبل أيام مجتزأ من كتاب وشيك الصدور في اللغة الإنجليزية للثائر الأرجنتيني الماركسي تشي جيفارا. يتألف المجتزأ من مقدمة أليدا جيفارا للكتاب، وثلاث رسائل موجهة من الأيقونة الثورية العالمية إلى إرنستو ساباتو، وفيدل كاسترو، فضلًا عن رسالة أخيرة من تشي إلى أبنائه.

أشارت المجلة إلى أنها أدخلت تعديلات تحريرية على النصوص المنشورة، "مراعاة للطول والوضوح"، لكن الظاهر أن هذه التدخلات قد لا تعدو إضافات توضيحية وضعت بين أقواس كهذه [ ]، وقد روعي إثباتها في مواضعها من الترجمة العربية.


تشي جيفارا كان أبي، وهو في رسائله يكشف عن نفسه بصراحة، وعفوية، بما يجعل قراءتها سبيلًا فاتنًا إلى معرفته معرفة حقيقية. "أعانقك بكل حماسي الثوري: رسائل 1947-1967" [I Embrace You with All My Revolutionary Fervor, Letters 1947–1967] هي المجموعة الأولى على الإطلاق التي تصدر من رسائله في اللغة الإنجليزية، أو في أي لغة، وأغلبها ينضح بالصراحة ويبرز بما له من أثر تاريخي. ها هنا رسالة كتبها إلى مواطن أرجنتيني مرموق هو الكاتب إرنستو ساباتو، ورسالة أخرى إلى فيدل كاسترو مؤرَّخة في الخامس والعشرين من آذار/مارس سنة 1965 محللا فيها وضع كوبا وعارضًا أفكاره بشأن الأخطاء في نهج الاقتصاد السياسي، والنظام المالي الموازني، وآلية العمل الداخلي في الحزب الشيوعي حديث التأسيس، ونطاق من المواضيع الأخرى. كما أن تشي يحث فيدل في رسالته هذه على مراعاة أهمية الوعي السياسي في تحدي إقامة مجتمع جديد، موضحا أن الإنسان الجديد سوف يظهر في ثنايا عملية تحويل الاقتصاد الكوبي.

النصوص التالية مجتزأة من كتاب "أعانقك بكل حماسي الثوري: رسائل 1947-1967"، تأليف تشي جيفارا، الذي يصدر عن دار سيفن ستوريز بريس في خريف 2021.

ينتهي هذا الكتاب بالعديد من رسائل الوداع التي لا أملك حبس دموعي وأنا أقرأها. في إحداها يوجهني أبي بوصفي أكبر الأبناء فيقول لي "ذاكري بجد وساعدي والدتك بكل طريقة في وسعك". ضقت بهذه الرسالة حين قرأتها طفلا، لكنني غفرت له لاحقا حينما رأيت كمَّ ما لديه من صور فوتغرافية لي داخل مكتبه. فأدركت آنذاك أنه ربما لن يصطحبني يومًا إلى القمر، لكنه حملني دائمًا داخل قلبه.

  • أليدا جيفارا

إلى إرنستو ساباتو

هافانا، 12 نيسان/ أبريل، 1960

"سنة الإصلاح الزراعي"

السيد إرنستو ساباتو

سانتوس لوجارس

الأرجنتين

الرفيق المحترم،

حينما كنا في سييرا مايسترا، زارنا زعيم الحزب [الاشتراكي الشعبي] الشيوعي وقال لنا إنه معجب بكمِّ ما ارتجلناه وكيف أننا استطعنا جمع كل الجماعات المستقلة ضمن منظمة مركزية. وقال معلقا إن هذه أكمل فوضى منظمة في الكون. وإن هذه الثورة يقينًا شبيهة بتلك لأنها تجاوزت بسرعة أيديولوجيتها المبكرة.

لقد كان من اتبعوا فيدل منا جماعة تفتقر إلى التجربة السياسية لكنها توافرت على الكثير من حسن النية والأمانة. أعلناها: "سنة 56 سنكون إما أبطالًا أو شهداء". وقبل وقت غير طويل من ذلك، كان علينا أن نعلن مثلما أعلن فيدل أن "العار على المال". شعاراتنا البسيطة أوجزت أفكارنا البسيطة.

كانت الحرب على دكتاتور كوبا المدعوم من الولايات المتحدة [فولجنشيو باتيستا] هي التي جعلتنا ثوارًا. وما من تجربة أعمق للثوري من فعل الحرب: ولا أعني فعل القتل المعزول أو حمل بندقية أو إطلاق شرارة معركة ما، ولكن تجربة الحرب الكاملةُ، وإدراك [محارب العصابات] المسلح الذي لم يعد يخشى رجلًا مسلحًا آخر أنه مكافئ لوحدة مقاتلة في جيش أو لأي جندي مسلح آخر. أوضحنا، نحن القادة، للفلاحين العزل أن بوسعهم أيضًا أن يحملوا السلاح ويبيِّنوا للجنود أن فلاحًا مسلحًا يساوي مثل ما يساوي خيرة الجنود. تعلمنا على الطريق أن جهد فرد واحدٍ عديمُ القيمة ما لم ترافقه جهود كل فرد ممن يحيطون به. تعلمنا أيضا أن الشعارات الثورية لا بد أن تكون ترجمة لرغبات الشعب الحقيقية، وتعلمنا كيف نتشرَّب أعمق رغبات الشعب ونحوِّلها إلى رايات مرفوعة وتحريض سياسي. ذلك ما خبره كل واحد منا فبات يفهم أن توق الفلاح إلى الأرض هو أقوى حافز للكفاح في كوبا.

كذلك ولدت الثورة، وكذلك ظهر برنامجها، وكذلك، قليلًا قليلًا، تطورت نظريتنا ونحن على الطريق، بينما ظلت أيديولوجيتنا دائمًا متخلفة عن الأحداث. ولما حان الوقت الذي أصدرنا فيه قانوننا الأول للإصلاح الزراعي في سييرا مايسترا، كنا قد قمنا بالفعل بإعادة توزيع الأرض هناك. وحتى بعدما تعلمنا الكثير من خلال الممارسة العملية، لم يجرؤ قانوننا الأول الجبان للإصلاح الزراعي على المساس بأعمق القضايا: أي مصادرة أملاك كبار ملاك الأراضي.

لم يعتبرنا الإعلام في أمريكا اللاتينية خارجين عن السيطرة، وذلك لسببين: الأول هو أن فيدل كاسترو سياسي استثنائي لا يكشف قوته أبدًا بما يتجاوز القدر اللازم، وكان يعلم كيف يحظى بإعجاب الصحفيين المتعاطفين من كبرى الشركات الإعلامية الذين يعمدون عادة لى تبني خيار التهييج السهل. والسبب الثاني هو أن أبناء أمريكا اللاتينية يعمدون دائمًا إلى تطبيق اختبارات معينة لتقييم كل شيء وقد استعملوا نهجهم هذا في تحليل ثورتنا. وهكذا عندما قلنا "سوف نؤمِّم جميع الخدمات العامة" حسبونا نقصد أننا "سوف نتجنب هذا إذا تلقينا الدعم المعقول". وحينما قلنا إننا "سنقضي على كبار ملاك الأراضي" حسبونا نقول إننا سوف نستعمل المزارع الكبرى قاعدةً جيدة لتمويل حملتنا السياسية وملء جيوبنا"، وهكذا دواليك. لم يدخل رؤوسهم قط أن ما كان يقوله فيدل كاسترو وحركتنا هو ـ بمنتهى الدراماتيكية والأمانة ـ الصدق والحق في ما يتعلق بنوايانا. وهكذا كنا ـ في أعينهم ـ أكبر المحتالين في هذا النصف من القرن لأننا كنا نقول [في ظنهم] شيئًا، ثم نفعل شيئًا آخر.

قال أيزنهاور إننا خنَّا مبادئنا، وهذا صحيح جزئيا: لقد خنَّا صورتنا لديهم، كما في قصة الراعي الكذاب، لكن بالعكس، لأنهم لم يصدقوا قط ما كنا نقول.

نحن اليوم نستعمل لغة جديدة لأننا ماضون في التقدم بوتيرة أسرع كثيرًا من تفكيرنا وقدرتنا وتكويننا وأفكارنا. ونحن في حركة دائبة، والنظرية متخلفة بعيدًا من ورائنا، وبغاية البطء لدرجة أنني بعد كتابة دليل العمل الذي أبعثه إليك، أدرك أنه في غضون فترة قصيرة للغاية يوشك ألا يكون ذا نفع لكوبا. غير أنه قد يكون نافعًا لبلدنا، [الأرجنتين]، إذا روعي في تطبيقه الذكاء، دونما تعجل أو بهرجة. ولذلك أخشى من محاولة تعريف أيديولوجية الحركة، فلن يحين وقت النشر، إلا ويحسب العالم كله أن الكتاب مؤلَّف قبل سنين.

وفي حين يصبح الوضع الداخلي أدق، وترتفع التوترات الدولية، ونظرا لاحتياج ثورتنا إلى النجاة، فلا بد لها من الاشتداد، وكلما اشتدت الثورة ازدادت التوترات فيفضي ذلك إلى المزيد من الاشتداد إلى أن نصل إلى نقطة الانهيار. ولسوف نرى كيف ننتشل أنفسنا من هذا المستنقع.

الأمر الذي يمكنني تأكيده لك هو أن شعبنا قوي لأنه حارب وانتصر ويعرف مذاق حلاوة النصر، ذاق شعبنا الرصاص والقنابل وذاق الظلم. ويعرف شعبنا كيف يقاتل قتالا نزيها. في الوقت نفسه، يمكنني أن أؤكد لك أنه حينما يحين الوقت، وبرغم الآراء المتواضعة التي أطلعتك عليها في هذا الموضوع، سيكون تنظيرنا أقل، وقد لزم علينا أن نتغلب على تحديات كثيرة في خفة تعلمناها من حياة حرب العصابات.

مودتي

إرنستو تشي جيفارا

*

 

إلى فيدل كاسترو

هافانا، 26 مارس 1965

"سنة الزراعة"

فيدل،

في الفترة الأخيرة من حياة لينين، يمكن أن يلحظ من يقرأه بعناية توترًا عظيمًا، ثمة رسالة شديدة الإثارة كتبها إلى رئيس بنك تابع للدولة يسخر فيها من الأرباح المزعومة وينتقد المصاريف والأرباح إذ تتنقل بين المؤسسات (أي العمل الورقي المنقول من مؤسسة إلى أخرى). لينين، الغارق هو الآخر في ما يراه من انقسامات داخل الحزب، غير واثق في المستقبل. ومع أن هذا الأمر ذاتي تمامًا، لكن ينطبع لديَّ أن العمر لو كان قد امتد بلينين واستطاع أن يستمر في قيادة العملية الثورية التي كان فاعلًا أساسيًا فيها وله عليها السلطة الكاملة، لسارع إلى إدخال تعديلات على العلاقات التي أقامتها السياسة الاقتصادية الجديدة. في هذه الفترة الأخيرة [من حياة لينين] كثيرًا ما تردد كلام عن استنساخ بعض جوانب رأسمالية تلك الحقبة، من قبيل بعض أوجه الاستغلال كالتيلورية Taylorism، والتيلورية غير موجودة اليوم. والواقع أن التيلورية ليست إلا الستاخانوفية Stakhanovism: وهذه ببساطة هي العمل بالقطعة، أو هي بالأحرى العمل بالقطعة وقد اكتسى بزي مبهرج. لقد ورد اقتراح بنظام الأجور هذا ضمن الخطة السوفيتية الأولى بوصفه اختراعًا من اختراعات المجتمع السوفييتي.

الواقع هو أن الهيكل العظمي الاقتصادي القانوني الكامل للمجتمع السوفييتي اليوم نشأ من السياسة الاقتصادية الجديدة، التي أبقت على العلاقات الرأسمالية القديمة وجميع فئات الرأسمالية، بما فيها السلع والفوائد البنكية والربح (حتى مدى معين). فضلًا عن الاستمرار [في استعمال] أرباح العمال المادية المباشرة. في رأيي أن هذا الهيكل العظمي بالكامل ينتمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه، مثلما قلت بالفعل، رأسمالية ما قبل الاحتكار [...] نريد نظامنا أن يمضي قدما في مسارين أساسيين وصولًا إلى الشيوعية. والشيوعية ظاهرة من ظواهر الوعي: لا يمكنك أن تصل إليها قفزًا على العدم مغيرًا نوعية الإنتاج أو من خلال صدام بسيط بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. الشيوعية ظاهرة من ظواهر الوعي، ولا بد من أن نطور هذا الوعي لدى الشعب، ومن هنا يكون التعليم الفردي والجمعي ضرورة قصوى للشيوعية. ومن وجهة النظر الاقتصادية، ليس بوسعنا أن نتكلم عن شروط كمِّية. لعلنا نكون في موقع يتيح لنا الوصول إلى الشيوعية في غضون سنوات قليلات، قبل أن تهجر الولايات المتحدة الرأسمالية. لا يمكننا أن نقيس إمكانية تحقيق الشيوعية في ضوء دخل الفرد، فما من علاقة متبادلة كاملة بين الدخل والمجتمع الشيوعي. ستستغرق الصين مئات السنين قبل الوصول إلى دخل الفرد في الولايات المتحدة. ومع هذا، فنحن نؤمن بأن دخل الفرد شيء مجرد، فبقياس متوسط راتب العامل الأمريكي، حتى لو شملنا العاطلين عن العمل، وحتى لو شملنا السود، حتى في هذه الحالة سيبقى نمط العيش شديد الارتفاع يكلف الوصول إليه الكثير لأغلبية بلادنا. ولكننا نتقدم نحو الشيوعية.

الجانب الآخر هو الخاص بالتكنولوجيا، فالوعي مضافًا إليه إنتاج السلع الأساسية هو الشيوعية. حسن، لكن ماذا يكون الإنتاج إن لم يكن زيادة استعمال التكنولوجيا، وماذا تكون زيادة استعمال التكنولوجيا إن لم تكن تركيزًا متزايدًا فاتنا لرأس المال، بمعنى أنه إما تركيز متزايد لرأس المال وعمالة ميتة أو رأس مال متغير وعمال أحياء. بالتناسب تحدث هذه الظاهرة في الرأسمالية المتقدمة، الإمبريالية. والإمبريالية لم تمت، بفضل قدرتها على استخلاص الأرباح والموارد من الدول التابعة وبتصدير الصراعات والتناقضات إليها، نظرًا لتحالفها مع طبقتها العاملة ضد بقية البلاد التابعة. في الرأسمالية المتقدمة، نجد البذور التكنولوجية للشيوعية أكثر مما نجدها في نظام التفاضل الاقتصادي القديم، أي أنها، بالتالي، وريثة الرأسمالية السابقة التي تم تجاوزها ومع ذلك تم اتخاذها نموذجا للتنمية الاشتراكية. علينا من ثم أن نلقي نظرة في المرآة، وثمة سنرى انعكاسًا لسلسلة مناهج إنتاج صحيحة لم تصطدم بعد مع علاقات الإنتاج. قد يذهب البعض إلى أن هذا ناجم عن وجود الإمبريالية على مستوى العالم، لكن مع هذا، سيتيح هذا بعض التصحيحات لنظامنا ونحن هنا لا نتكلم الا بصفة عامة. ولكي أعطيك فكرة عن الاختلاف العملي الاستثنائي القائم اليوم بين الرأسمالية والشيوعية، يكفيك النظر وحسب الى حالة الأتمتة automation: ففي حين تتقدم الأتمتة في البلاد الرأسمالية بإيقاع بالغ السرعة، تتخلف البلاد الاشتراكية وراءها كثيرًا. يمكننا أن نحتج بالمشكلات العديدة التي سوف يواجهها الرأسماليون لا محالة في المستقبل القريب بسبب نضالات العمال ضد البطالة، وهذا صحيح تمامًا، لكن صحيح أيضًا، اليوم، أن الرأسمالية أسرع تطورًا من الشيوعية على طريق الأتمتة.

لو حدث على سبيل المثال أن احتاجت ستاندرد أويل Standard Oil إلى إعادة تصميم مصنع، فسوف توقف الإنتاج وتعوِّض عماله. يغلق المصنع لعام، ويجري تركيب المعدات الجديدة ويبدأ الإنتاج من جديد بكفاءة أكبر. فما الذي يحدث في الاتحاد السوفييتي؟ إن لدى أكاديمية العلوم مئات وربما آلاف المشاريع للأتمتة لا يمكن تطبيقها لأن مدراء المصنع لا يستطيعون أن يسمحوا لأنفسهم برفاهية العجز عن تحقيق خطتهم السنوية. ولأن هذه مشكلة تتعلق بتنفيذ الخطط، فلو جرت أتمتة مصنع سوف يطالب بإنتاج المزيد وهو ما يعمل أساسًا ضد زيادة الإنتاجية، وبالطبع يمكن حل هذا، من وجهة النظر العملية بإعطاء المصانع المؤتمتة حوافز أكثر، وهذا هو نظام [الاقتصادي السوفييتي إيفسي] ليبرمان وهو النظام الذي يشرعون في تطبيقه في جمهورية ألمانيا الديمقراطية الشرقية، لكن هذا كله يبين مستوى الذاتية الذي يمكن أن يقع فيه المرء ونقص الدقة التقنية عندما يتعلق الأمر بإدارة الاقتصاد. فلا بد من الإحساس بلطمات الواقع القاسية قبل الشروع في التغيير، ونحن نؤثر دائمًا تغيير الشكل، الذي تكون سلبيته أوضح للنظر، بدلًا من التعامل مع الجوهر الحقيقي لجميع الصعوبات الموجودة اليوم، وهذا هو الفهم الزائف للإنسان الاقتصادي القائم على ممارسة اقتصادية قديمة ومستقرة تنزع، وستظل دائمًا تنزع، إلى تحويل البشر إلى أكثر قليلًا من أرقام في عملية الإنتاج من خلال رافعة المصلحة المادية.

ثمة فجوة ضخمة في نظامنا: كيف نحمل الناس على التماهي مع عملهم بحيث لا يعود لازمًا استعمال ما أطلق عليه أنا شخصيًا الحوافز المادية؟ كيف السبيل إلى جعل كل عامل يشعر بالضرورة الحيوية لمساعدة الثورة، وفي الوقت نفسه، كيف نجعل العمل لذة؟ كيف نجعلهم جميعا يشعرون بمثل ما نشعر به نحن في مستوى القيادة؟

لو أن الناس غير قادرين على فهم الصورة الكبرى وليس بوسعنا إلا أن نجعل الشخص المسؤول، القادر على إدارة مشروع، يجد مصلحة في العمل الذي يقوم به، فلن يتسنى لنا أبدًا أن نحمل على العمل بحماس سكرتيرًا أو خرَّاطًا؟ ولو أن الحل كامن في عرض حوافز مادية على ذلك العامل، فإننا نعالج الأمور بالطريقة الخاطئة.

كيف نحمل العمال على المشاركة؟ هذا سؤال لم أستطع أن أجد له جوابًا. وأعد ذلك أكبر عقبة أمامي وأفدح فشل لي، وهو من الأشياء التي يلزم أن نفكر فيها لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمشكلة الحزب والدولة وبالعلاقة بين الحزب والدولة.

والآن إلى النقطة الثالثة التي أردت تناولها: دور الحزب والدولة [في كوبا الشيوعية].

حتى حينه، لم يزل حزبنا المسكين أشبه بإحدى تلك الدمى الروسية التي يجري تشغيلها بخيط. بدأ الحزب بالسير على الطريقة السوفييتية: شأن دمية جيدة، بدأ يختال في مشيته، وبطريقته، إلى أن اصطدم في الأواني الفخارية فحللنا المشكلة بنزع الخيط. وهو الآن عالق في الركن لكننا نحاول إحياء هذه الدمية بتحريك إحدى ساقيها ثم الأخرى. وأتجاسر فأقول إنه الآن موشك على كسر قطعة فخار في أي لحظة، نظرًا لوجود مشكلات مترسخة لم تلق العلاج الكافي وهي التي تعوق تطوره.

الحزب في تصوري جهاز ذو طبيعة مزدوجة. فهو في آن واحد محرك أيديولوجي للثورة، وهو أيضًا أكفأ آلياتها الإشرافية. أما كونه المحرك الأيديولوجي فذلك بفضل أن الحزب وأعضاءه لا بد أن يأخذوا إرشادات الحكومة الأساسية ويحولوها على جميع المستويات إلى تعليمات للأجهزة والأفراد المعنيين بها. ولا بد من أن يعمل الحزب بوصفه جهاز إشراف بمعنى أن لجانه الشعبية وكياناته القيادية، وبدرجات أكبر على المستويات المتعاقبة، قادرة على إطلاع الحكومة على ما يجري فعليًا في كل شيء مما لا تنقله الإحصاءات أو التحاليل الاقتصادية، من قبيل الحالة المعنوية، والانضباط، ومناهج القيادة، والرأي العام، إلخ.

وحتى لو بقي الحزب في فوضى من بعض الأوجه، يمكن أن يؤسس قاعدة راسخة على المستوى الشعبي.

لقد قال القائد أوسماني ساينفيجوي شيئا شديد المنطقية قبل أيام: إننا نؤجل الأعمال العامة لكي نرسل الناس لجني قصب السكر، في حين أن الكيان المسؤول عن جني القصب يشغل قوة العمل لديه في مشاريع إنشائية. وهذه الأمور مستمرة في الحدوث.

من المهم كما قلت أن يتم تعريف دور الحزب: فإن لم يتسن اشتراكه في كل شيء، فعليه على الأقل أن يقوم بدور أساسي في مستويات منخفضة محددة وعلى نحو متماسك في البلد كله. لا بد من أن نبدأ في تدريس الفلسفة بالمعنى الواسع لكوادر الحزب، على أن يكون منها الإنسانيات الماركسية المتقدمة. وليس الهدف من هذا أن يكون الشخص في وضع يسمح له بتخطئة جدال أو تصويبه، وإنما الهدف هو الاشتراك في حلقات دراسية أو تصنيفات دراسية لوثائق، لمحاولة تحليل ما يدور حوله جدال ما. هيا نحول كوادر الحزب إلى كائنات مفكرة، لا في واقع البلد وحده وإنما في النظرية الماركسية فما هي بزركشة أو زخرفة ولكنها دليل عمل بارز.

انتقادي هنا يقوم على أساس صداقة قديمة راسخة وعلى تقدير مني لك، وإعجاب بك، وعلى ولاء غير مشروط من جانبي تجاهك.

الوطن أو الموت

[غير موقعة]

*

 

من بوليفيا

إلى أبناء تشي

الأعزاء هيلديتا وأليديتا وكاميلو وسيليا وإرنستو

لو قدِّر لكم يوما أن تقرأوا هذه الرسلة، فسيكون ذلك لأنني لم أعد معكم. سوف يشق عليكم أن تتذكروني، والصغار منكم لن يتذكرونني بالمرة.

بابا يا أبنائي كان رجلًا يؤمن فيفعل، ويقينا أنه كان مخلصا لعقيدته. اكبروا ثوارا طيبين. ذاكروا بغاية الجد حتى تسودوا التكنولوجيا، فتسودوا الطبيعة، تذكروا أن الثورة هي المهمة، وأن كل واحد فينا، وحده، لا يساوي شيئًا.

وأهم شيء، كونوا دائمًا قادرين على الإحساس العميق بأي ظلم يرتكب في حق أي شخص، في أي مكان من العالم. وهذه الخصلة هي الأجمل في أي ثائر.

إلى الأبد يا أبنائي. لم أزل أرجو أن أراكم. لكم من بابا قبلة كبيرة وحضن كبير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ريكاردو بيجليا: عندما واجه جيفارا الموت بالقراءة

تُرجم قديمًا: غير المرغوب فيه