21-ديسمبر-2015

نشأت في بيئة موالية للقوات اللبنانية (Getty)

منذ كنت جنينًا والصلوات تنهال على بطن أمي، الصلاة كانت طقسًا يوميًا في عائلتي. أمي تزوجت في سن السادسة عشر وبعد أشهر حملت بي، فنذرتني لمار الياس كشفيع يحميني. حملت اسمًا مشتقًا من اسمه وعُلّقت على ملابسي أيقونة ذهبية له. ومار الياس الذي سبق يسوع بكثير لم يتخلّ يومًا عن سيفه وصعد بعربته النارية إلى السماء. لطالما أحببت عربة شفيعي التي طار بها إلى السماء وأرعبني السيف الذي حمله، لكنني كنت أواسي نفسي بأنه لمحاربة الأشرار فقط.

قبل أن أولد كانت أمي تصلي "مسبحة الوردية"، والوردية هي مريم أم يسوع، أما المسبحة فهي عبارة عن تلاوة صلاة "الأبانا" و"السلام" بحسب عدد حبات السبحة. لم أفهم الفكرة من تكرار الصلاة نفسها، لكنها كانت طقسًا تتناوب عليه النسوة في عائلتنا، يلففن المسبحة حول المعصم ويؤدين أعمالهن المنزلية متمتمات. كبرتُ في منزل جدّي، منزل مكوّن من غرفتين تحرسه العذراء مريم بتمثال كبير محاط بالورد والشموع، أحبّت جدتي مزارها الشاهق كالسماء، لا بل كانت مقتنعة أن العذراء استجابت لدعاء أمي عندما كانت طفلة ما أثنى الفدائيين عن ذبح جدي. نشأت في بيئة لبنانية تناصر "القوات اللبنانية".

يسوع الذي أحببناه نحن الصغار، هو الذي قال "دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله"

 أحببت مريم وقطفت لها الياسمين والغاردينيا مرارًا، وكنت أسرق فناجين القهوة لأقدم لها زهوري. وفي المنزل أيضًا لوحة رمادية لمار جرجس، ضابط بلباس روماني يقتل التنين بسهمه ليخلّص فتاة ما، بدت الفتاة قبيحة في اللوحة أما مار جرجس فوسيم مسلّح، بخوذة حديدية وكان شفيع خالي الأصغر الذي قامت جدتي بربطه بقماشة ليتدلّى من على حائط الكنيسة نذرًا لمار جرجس، لكن شفيعه لم يتمكّن من حمايته عندما فجّرت قذيفة جسده، رغم أن خالي كان مسلّحًا أيضًا في الحرب.

كبرتُ محاطة بمريم ومار جرجس ومار الياس، وبعائلة تصلّي كثيرًا، تبدأ نهارها بالاستماع إلى القدّاس عبر راديو جدّي البنّي. لم يحدثوني كثيرًا عن الله، كان ابنه الحكاية، يسوع الذي أحببناه نحن الصغار، هو الذي قال "دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله". كبرتُ وأنا أرافق أهلي إلى القداس كل نهار أحد، أحمل الشمعة، أرسل قبلات عبر الهواء للمسيح المصلوب، تحملني أمي بين يديها عندما تتجه للمناولة فيباركني الكاهن واضعًا الكأس فوق رأسي، وظلّت هذه الحال حتى أصبح بمقدوري تناول "جسد المسيح" بعد أن أتممت مراسم المناولة الاولى، فصرت أرافق الجموع مزهوّة، لأتناول قطعة قربان تدخل فمي كأنها قطعة سحرية.

اختيار عائلتي للمدرسة جاء مسيحيًا أيضًا، أي مدرسة تابعة للراهبات كانت تفي بالغرض، فأُدخلت أنا وأختي مدرسة راهبات خاصة بالبنات. الراهبة التي كنا جميعًا نخافها سيدة مسنة مطلية بالكحلي، بنظارتين سميكتين وفي ذقنها شعيرات بيضاء كأنها نبتت منذ الأزل، أقنعتنا بأن القديسة تيريزا لن تدخل السماء لأنها كانت متزوجة فيما مضى. يسوع في المدرسة كان فرنسيًا، والراهبات اللواتي يُوصفن بعرائس المسيح لم يتحدثن إلا الفرنسية، حتى أسماؤهن المركبة صدّرتها فرنسا.

كنت محاطة بنساء من كل الجهات، ما عدا كاهن المدرسة، وعندما سألت مرة لماذا لا يكون هناك "كاهنة" أقنعوني برهبة أن الكاهن يمثل المسيح والكهنوت سر خاص بالرجال، كما طُلب من رجل أن يرأس الكنيسة والمرأة على حد سواء. وجدتها أمرًا معقدًا وكان يسرّني وجود الكاهن -الرجل الوحيد في هذا المكان حيث كل شيء كان بالفرنسية، القدّاس، الإنجيل، الصلاة الصباحية، والدعوات التي علينا أن نطلقها مكوّرات الفم. في البداية فرحت لاكتشافي أن يسوع فرنكوفوني لكنني لاحقًا بدأت أشعر بالثقل، فالصلاة بالعربية كانت الأقرب إلى قلبي، حتى أنني كنت أجيد الاعتراف بالعربية بطلاقة أكثر من الفرنسية. كان الاعتراف نوعًا من المشاكسة الطفولية، أطلب من الكاهن أن يغفر لي أخطاء لا أذكر إن كنت قد ارتكبتها فعلًا، أعترف بها ساجدة، يطلب مني ألا أعاود الكرة وأن أصلي الأبانا والسلام مرة واحدة ليُغفر لي.

اختيار عائلتي للمدرسة جاء مسيحيًا أيضًا فأي مدرسة تابعة للراهبات كانت تفي بالغرض

الطفولة كانت أصدق مرحلة في علاقتي مع يسوع، كنت على يقين دائم أنه سيغفر لي، لطالما وصلني بصورة وديعة رقيقة، لم يكن عليّ أن أكبر، لكنني لم أتمكن من التوقف، رحت أكبر وأخاف أكثر. صار يسوع بعيدًا، رحت أشعر بالحبل يلتف حول عنقي متى هددوني بأن يسوع سيخنقني إذا كذبت، أشتمّ رائحة لحمي وهو يُشوى في نار جهنم وكان خوفي مضاعفًا من الشواء لأنني أسمن من غيري. وكم أخافني المطهر، هذا المكان الذي بحثت عنه في الكتاب المقدس ولم أجده، كان يسكن عقول المؤمنين وكنت أتخيّل نفسي عالقة بين جهنم والسماء ولا أفعل شيئًا سوى البكاء. غضبت كثيرًا من الراهبات في المدرسة، من مكاتبهن الفاخرة، من مائدة الطعام التي تمتد عليها أجود أنواع الطعام الفرنسي، كنت أراقبهن من بعيد وأشعر بالغيظ، حتى من هرّ الراهبة المسؤولة، صاحب الاسم الفرنسي، كانت تطعمه علب طعام مخصصة للهررة مكتوب عليها باللغة الفرنسية التي كنا ملزمات بتحدثها أثناء وجودنا في الملعب.

لاحقًا، تركت المدرسة والراهبات والقداس بنسختيه العربية والفرنسية، القداس الذي اكتشفت لاحقًا بعد أن توقفت عن المشاركة فيه كببغاء، أنه كتلة تناقضات، أمي أخبرتني أن يسوع تجسّد ليخلصنا من الخطيئة الأصلية ويحررنا من تجار الهيكل، لكن في القداس ما زلنا عبدة خطأة نخافه، لا أعلم كيف يمكنك أن تحب أحدًا تخافه. تركت القداس لأنه لا يشبه يسوع، أضعته هناك. اكتشفت أن هناك سلسلة طوائف تختلف بمرجعيتها وممارساتها، ومجددًا لم أفهم سببَ كل هذه التعقيدات.

الموارنة يحتفلون بقداس مختلف عن الروم، مختلف بالتوقيت والطقوس والمراسيم، لا بل إن صديقتي كانت تشكر ربها لأن القداس الماروني ينقضي بخمس وأربعين دقيقة فقط في حين أن القداس عند طوائف أخرى يستمر ساعة ونصف. تركت شفيعي وكل القديسين الذين توالوا على حياتي بعده، تركت الصلاة بنسختيها الأبانا والسلام وفعل الندامة وفعل الإيمان والأسرار الكنسية السبعة، وأبقيت على بعض ما قاله يسوع، هذا البعض الذي ظلّ نقيًا داخلي. كان عليّ أن أبقى صغيرة وأرسل قبلاتي إلى يسوع الذي يتألم على الصليب.

اقرأ/ي أيضًا:
اختفى الجندي عن الحاجز
في لبنان قل لي ما اسمك أقل لك ما طائفتك