21-سبتمبر-2015

من الفيلم

لا يبدو المخرج الفرنسي ستيفان بريزيه معنيًا إلى حدّ بعيد برسم ملامح خاصة ودقيقة لبطل فيلمه الجديد "قانون السوق"، المعروض في النسخة الأخيرة من "مهرجان كان السينمائي الدولي". يدخل المشاهد صالة العرض ويخرج منها بعد نحو ساعة ونصف وهو لا يعرف عن تييرّي، على المستوى الشخصي - الحميميّ، إلا القليل: رجل خمسيني تقريبًا، من الطبقة الوسطى، أبٌ لمراهق معاق وزوجٌ لامرأة قليلة الكلام مثله لا نعرف عن حياتها، هي الأخرى، أي شيء خاص سوى تلقيها دروس رقص للمبتدئين مع زوجها.

شحّ المعلومات التي يقدّمها لنا فيلم "قانون السوق" حول شخصيته المحورية لا يعيق تلقّينا له

لكنّ شحّ المعلومات التي يقدّمها لنا الفيلم حول شخصيته المحورية لا يعيق تلقّينا له أو تفهّمنا لها ولإشكاليتها. إذ أن المهمّ بالنسبة إلى بريزيه وبالنسبة إلينا كمشاهدين هو تتبّع صراع البطل ومعاناته مع البطالة وعواقبها المريرة عليه وعلى عائلته، أولاً، ومع حال العمل الذي سيضطر إليه لاحقًا وشروط السوق المذلة التي تحكم علاقته بهذا العمل، ثانيًا. انطلاقًا من هذا الفهم، تغدو حياة هذا البطل الخاصة ومواصفاته وتاريخه الشخصي تفاصيلَ هامشية إذا ما نظرنا إليه كعاطل عن العمل، أو إذا ما نظرنا إليه من وجهة نظر السوق وقوانينه التي غالبًا ما لا ترى في شخص كهذا إلا أداة من لحم ودم لزيادة الأرباح أو تاريخيًا مهنيًا في أقصى تقدير. وعلى هذا الأساس، يصبح ممكنًا استبدال بطلنا بمئات الآلاف بل الملايين من الأشخاص الذين يشبهونه دون أن يتغير شيء ما في سيرورة الفيلم. يمكن قراءة "قانون السوق"، منذ مشهده الأول، على أساس هذا الفهم. 

نحن في فرنسا اليوم، وتحديدًا فرنسا البطالة والأزمة الاقتصادية. تييرّي، المنضمّ إجباريًا منذ سنة ونصف إلى نادي العاطلين عن العمل الذي لم يستطع مغادرته حتى الآن، يجلس مهزوزًا ومتوترًا أمام موظف معياري في مكتب "مؤسسة العمل" الحكومية. كاميرة محمولة على الكتف، مهزوزة هي الأخرى مثل تييري، سترافقنا حتى نهاية الفيلم. حتى الآن، كل ما نعرفه عن هذا الرجل هو أنه بلا عمل. ما تبقّى ثانوي، كما يبدو. الموظّف، الذي يتحدث إلى تييرّي باسم المؤسسة قد يكون هو الآخر ضحية سابقة أو مستقبلة للبطالة والسوق والسياسات الاقتصادية.

رغم ذلك، لا يتوانى هذا الرجل عن تبنّي خطاب المؤسسة الخشبي والاشتغال على إعادة إنتاجه وتصديره. بالنسبة إليه، كما يبدو، وإلى المؤسسة التي يعمل فيها، ومن ورائها السوق وقوانينه، يمكن اختصار تييرّي بسهولة إلى وجودٍ مسطّح ذي وجهين: إما عامل، أو عاطل عن العمل. وباعتباره عاطلًا عن العمل، فمهمة المؤسسة هي دفعه إلى أن يصبح من أصحاب الأجور الشهرية بأي طريقة، حتى لو كانت هذه الطريقة عشوائية وتفتقر إلى التفكير الجدّي به وبمواصفاته وقدراته كفرد، وإلى أخذ إنسانيته ورغباته وطموحاته بعين الاعتبار.

وهذا بالضبط ما حدث مع تييرّي. في مسعى حذف اسمه من قائمة العاطلين عن العمل الطويلة، نصحتْه "مؤسسة العمل" بدورة تدريب مهني كسائق رافعة تُستخدم في ورشات البناء. غير أن هذه النصيحة، والأسابيع التي قضاها في الدورة، لم تنفعه بشيء، خصوصًا وأنه لم يسبق له أن عمل أبدًا في حقل البناء. ولهذا هو هنا في مكتب "مؤسسة العمل". 

بطل "قانون السوق" محكوم بالامتثال إلى سلسلة من "القوانين" و"المعايير" و"الأنظمة" التي تحكم السوق

إنه يحاول أن يخبر المؤسسة، من خلال موظفها، أن تصرفها عبثي وأنها أضاعت وقته وأجهدته بدل أن تساعده. لكن هذه المؤسسة، التي يكسو أدواتها وحلولها الغبار كما يبدو، ليس لديها ما تقدّمه إليه مجددًا سوى أن تقترح عليه دورة مهنية جديدة كعامل في متجر. دورة تساعدها على التخلص منه، وتساعده، من وجهة نظرها، في زيادة حظوظه في سوق العمل. لكن تييرّي، الذي يشكل مع زوجه وابنه عائلة صغيرة تحتاج إلى مدخول في أسرع وقت، سيرفض مقترح الموظف التعسّفي فور سماعه. هكذا، يحمل الرجل الخمسيني غضبه الذي كان على وشك الانفجار وإنسانيته المهدورة في "مؤسسة العمل" ويخرج محاولًا البحث عن حلول أخرى.

بعد معاناة وذلّ (لن يفارقاه حتى نهاية الفيلم)، سيعثر تييرّي على وظيفة كمراقب في سوبر ماركت مهمّته "السهر" على مراقبة الجميع وكل شيء: البضائع، الزبائن، والزملاء. هذا العمل الجديد يقتضي أن يوزّع تييرّي وقته بين رفوف وممرّات السوبر ماركت حيناً، وأمام الجهاز في غرفة المراقبة الذي تقضي إلى شاشته صوُرُ عشرات الكاميرات الموزعة في زوايا السوبر ماركت، حينًا آخر.

الحقيقة أن مشكلة تييرّي ومعاناته، كما يريد الفيلم إيصالها، لا تُختصر بفكرة العثور على عمل أو فقدانه. إذ مع بدء عمله الجديد، سيبدأ الرجل، بالتوازي، مرحلة جديدة من المعاناة والذل لا يختلفان عن المعاناة والذل في مرحلة البحث عن عمل إلا شكليًا. كأن تييرّي عالق في مأساة دائرية لا يمكن النظر إليها أو تعريفها إلا في إطار علاقتها الأساسية بمركزها: السوق. إنه محكوم، كعامل أو كعاطل عن العمل، بالامتثال إلى سلسلة من "القوانين" و"المعايير" و"الأنظمة"، بل وإن تقدّمه "المهني" مرتبط بشكل اضطرادي بدرجة امتثاله.

إن "قانون السوق"، بتجنبّه الخوض في الشخصي والعائلي من حياة تييري، وبابتعاده عن تحجيم مشكلة تييرّي بالعثور على عمل، يريد القول إن مشكلته أكبر بكثير من القصة التي يقترحها. 

ستيفان بريزيه يرفض تمامًا، كما يبدو، المعالجة المشخصَنة لموضوع العمل والبطالة سينمائيًا؛ تلك المعالجة التي غالبًا ما تختزل قضية الفيلم الثقيلة وأسئلتها اللانهائية إلى مشكلة شخصية تنتهي بحل بسيط إما أن ينقذ البطل أو أن يجعل منه مأساة تدعونا للبكاء. المخرج يقطع المشهد الأخير من فيلمه عند لحظة لا تدعو لا إلى الفرح ولا إلى البكاء، إنما إلى التساؤل واستكمال التفكير.