29-يونيو-2018

الكاتب الألماني برنهارد شلينك

تعدّ "القارئ" من الروايات المهمة التي تندرج ضمن روايات المباحث، خصوصًا إذا عرفنا أن كاتبها الألماني برنهارد شلينك كان قاضيًا في المحكمة الدستورية، ثم أصبح فيما بعد أستاذًا للقانون العام وفلسفة القانون في جامعة هومبولت في برلين.

هل ينبغي على الإنسان أن يبيح بالأسرار التي اؤتمن عليها لو نتج عن ذلك إنقاذ حياة الآخر؟

صدرت الرواية في عام 1944، وترجمت حديثًا عن دار "روافد"، وقد نقلها إلى العربية المترجم تامر فتحي.

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف في "عصافير داروين".. رحلة عربية إلى الهزيمة

الرواية توجّه نقدًا حادًا لمسألة العدالة حينما تغض الطرف عن الجلاد صاحب السلطة، وتفتح عينيها جيدًا على المنفذ الذي لاحول له ولا قوة.

تبدأ الرواية بشاب في الخامسة عشر من عمره يدعى مايكل، مصاب بالتهاب كبدي يحاول تجاوز مرضه ويخرج إلى الشارع إلا أنه يصاب بضعف شديد ويسقط على الأرض، بعيدًا عن منزله لتسعفه امرأة في الثلاثينيات تصبح سببًا في تحولات حياته فيما بعد، حيث تصحبه إلى بيتها وتعتني به لتنشئ بعد ذلك علاقة ودية يطول أمدها.

"لم أكن أعرف اسم المرأة، كنت ممسكًا بباقة ورد، وأقف مترددًا أمام البوابة ولوحة مفاتيح الأجراس. وددت لو أني استدرت وصرفتُ نظرًا، لكن حينئذ خرج رجل من البيت، وسألني عمن أبحث، ثم دلني على السيدة شميتز في الطابق الثالث" (ص 13).

يبقى مايكل يتردد على السيدة شميتز لتبدأ مرحلة مهمة في فصول الرواية، فمايكل ابن لعائلة علمية فأبوه فيلسوف كتب عن كانط ونيشته، وحينما كان يزورها يحمل معه مجموعة من الكتب مما يزيد شميتز تعلقًا به وتطلب أن يقرأ لها فيستجيب لها دون معرفة السبب وراء ذلك، حيث كانت تمدحه حينما يبادر بالقراء. "لديك صوت عذب يا طفلي الصغير وأود أن أستمع إليك عن قراءتهما بنفسي" (ص45). قرأ لها مسرحيات إيمليا جالوتي وكتب أيشندروف وكافكا والإلياذة والأوديسية.

تتطور احداث الرواية وتنقطع العلاقة بين هانا شمينز ومايكل حينما تغادر المدينة دون علمه، لترجع بشكل جديد بمايكل طالب القانون في جامعة هايدلبرغ، وهانا المتهمة التي تقف أمام القاضي بتهمة عملها في المعسكرات النازية حيث كانت تعمل هي ومجموعة من النساء في معتقل لأسيرات يهوديات، حيث توفيت 300 امرأة يهودية ولم تنج منهن إلا اثنان ام وابنتها، بحسب تقرير قديم مجهول الكاتب، حيث يكلف مايكل بإعداد سيمنار عن المحاكمة ويراقب مجريات الأحداث كمتدرب على تحليل جرائم الحرب.

كان بإمكان هانا أن تخفف العقوبة لو أنها انكرت وصبت اللائمة على المتهمات الآخريات مثلما فعلن معها، لكنها بقيت تتعامل بجمود مع الموقف وكررت سؤالها المستفز الى القاضي أكثر من مرة، ماذا ستفعل لوكنت مكاني؟! كما أنها لم تنكر كتابة التقرير حيث أشارت المدعى عليها الأخرى إلى هانا لتجيب في بادئ الأمر بالنفي "لا لم أكتبه، وهل يهم معرفة من كتبه؟". بعد ذلك اقترحت المحكمة استدعاء خبير لمقارنة خط اليد في التقرير وخط هانا، مما يستدعي كشف أميتها الأمر الذي جاهدت طوال حياتها لإخفائه اذ تعده عارًا يسبب لها ألمًا أكثر من ألم الجريمة، فاضطرت إلى الاعتراف بكتابة التقرير "لستم في حاجة إلى استدعاء خبير، فأنا أقر بأنني كتبتُ التقرير" (ص 130).

بعد ذلك يحاول برنهارد طرح قضية أخلاقية وهي: هل ينبغي على الإنسان أن يبيح بالأسرار التي اؤتمن عليها لو نتج عن ذلك إنقاذ حياة الآخر؟

 رواية "القارئ"

هذا ما نلاحظه في موقف مايكل الذي أدرك من مقارنة ماضي هانا وحاضرها بأنها أمية لا تجيد القراءة والكتابة فكيف يتسنى لها كتابة التقرير؟! وهذا هو السبب الذي جعلها تطلب منه القراءة بصوته، لكنه يفضل بعد ذلك الحفاظ على خصوصية هانا التي تخشى أن توصم بالأمية.

"نعم إن ذلك ما كانت تكافح من أجله، لكنها لم تشأ أن تفوز بنصرٍ ثمنه افتضاح أميتها... إحساسها بنفسها كان أكثر قيمةً من سنوات السجن لها" (ص 138)

كان بإمكانها الاعتراف بذلك، خصوصًا بوجود مايكل الذي سيؤكد هذا الأمر وستخفف العقوبة أو يستجد أمر ما يغير مجريات المحاكمة لصالح هانا، لكنها لم تفعل ليحكم عليها بالسجن مدى الحياة، وحكم على الآخريات بمدد متفاوتة في الحبس.

في رواية "القارئ"، تتجلى قيمة الإرادة الصلبة بأبهى صورها متجاوزةً كل خطوط المستحيل في الحياة الممكنة، حيث استطاعت هانا أن تمحو صورة الأمية من شخصيتها بعد أن تحملت عناء السجن مدى الحياة لأجل ذلك، حيث يقوم مايكل بإرسال كاسيتات أدبية مسجلة بصوته بشكل متواصل، حيث أرسل لها الأوديسة وقصص لتشنتزلر وتشيخوف مع جهاز التسجيل.

ليفاجئ برسالة قصيرة من هانا كتبتها بخط يدها "يا ولد القصة الأخيرة كانت لطيفة بشكل مميز، شكرًا لك".

"قرأت الرسالة وملأني الفرح والابتهاج أنها تستطيع الكتابة" (ص 184).

أخبرت مسؤولة السجن مايكل بشأن هانا وعن كيفية تعلمها القراءة الكتابة حيث أوضحت إصرار هانا الذي أدى إلى تعطل جهاز التسجيل مقابل أن تتعلم رسم الكلمات، "لقد تعلمت القراءة معك، استعارت الكتب التي تقرأها على الشريط من المكتبة وكانت تتبعُ ما تسمعه، كلمة كلمة وجملة جملة. لم يتحمل مشغل شرائط الكاسيت عملية الإيقاف والتشغيل المستمر وعملية الإرجاع والتسريع، كان يعطل ويحتاج الى تصليح" (ص 201).

تحولت رواية "القارئ" منذ سنوات إلى فيلم سينمائي يحمل عنوان العنوان ذاته، وقد حصل على عدة جوائز

قابل مايكل هانا بشعرها الرمادي ووجها الذي غيرته التجاعيد العميقة ليخبرها بقرب موعد الإفراج، كانت تتكلم بحالة من عدم الاكتراث مفضلةٍ أن تبوح بأسرارها وإعطاء التفسيرات إلى الموتى.

اقرأ/ي أيضًا: روبرت زيتالر.. بردٌ ينخر كل شيء

"لم تسمح لأحد في مطالبتها بالتفسير إلا الموتى، مقللة من شأن ذنبها والتكفير عنه إلى مجرد شعور بالأرق وبمشاعر سيئة فماذا تركت للأحياء؟"

في اليوم التالي وهو موعد الإفراج عن هانا قامت بفعلٍ صدم الجميع حيث شنقت نفسها عند طلوع الفجر، تاركتٍ وصية قصيرة في علبة شاي من الصفيح، حيث أوصت مايكل بأن يرسل الأموال التي في داخلها إلى البنت لتي نجت مع أمها، وعليها أن تقرر ماذا تفعل بالمال.

يذكر أن رواية "القارئ" تحولت منذ سنوات إلى فيلم سينمائي يحمل عنوان العنوان ذاته، وقد حصل على عدة جوائز، منها الأوسكار سنة 2008.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "عن إخواننا الجرحى".. بين أسنان الماكينة الاستعمارية

يوميّات لأينشتاين تنشر لأول مرّة تكشف عن عنصريّته القبيحة!