03-يونيو-2019

كاريكاتير لـ غويدو كون عن انتخابات ألمانيا 2017

في عرض مانفستو الديمقراطية نجد مبادئ مثل: الشفافية، المساواة أمام القانون، الخضوع للقانون، العدالة الاجتماعية والسياسية، حرية التعبير والرأي والتوجه السياسي... إلخ، ونجد أيضًا: صندوق الانتخابات. وفي التطبيق الفعلي للديمقراطية نجد أن المعارك التي تجري أمام صندوق الانتخابات هي المعارك الأكثر تعبيرًا عن هذه الديمقراطية والأكثر تمثيلًا لها. التعبير الآخر عن صندوق الانتخابات يمكن أن نجده في التعبير المناقض للديمقراطية وهو: الصراع على السلطة. الديمقراطية الغربية تحولت في العقود الأخيرة إلى نوع من الصراع على السلطة، وفي الطريق المؤدي إليها يمكن للمرشح: شخصًا أو حزبًا  أن يرتكب (الموبقات) التي من شأنها -وفق اعتقاده- أن توصله للسلطة.

التعبير الآخر عن صندوق الانتخابات يمكن أن نجده في التعبير المناقض للديمقراطية وهو: الصراع على السلطة

يعرف العالم أن ثمة تقدمًا ملحوظًا، وأحيانًا كبيرًا للأحزاب اليمينية الأوروبية على حساب الأحزاب الأخرى بما فيها أحزاب اليسار التي ظهرت -أساسًا- محمولة على شعارات الدفاع عن حقوق ومصالح الفقراء والعدالة في توزيع الثروة وما إلى هنالك. في تفسيرات تقدّم هذه الأحزاب وتراجع الأخرى عزا المفسرون ذلك ليس إلى ميل الناخب الأوروبي إلى برامج اليمين، بل إلى اعتكاف ناخب الأحزاب الأخرى عن الانتخابات أصلًا، الأمر الذي جعل اليمين يتقدم بهذه السرعة والقوة. في انتخابات البرلمان الأوروبي وصلت نسبة المنتخبين إلى 24,6% عام 2014 وهذه نسبة مخزية بالقياس إلى ما تروجه الديمقراطية الأوروبية عن نفسها، وكذلك بالقياس إلى مايروجه أنصارها من بلدان العالم الأخرى فاقدة الديمقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: "نهاية نهاية التاريخ".. الديمقراطية الغربية في مهب الريح

في التنافس بين أنجيلا ميركل ومارتن شولتز عام 2017 في ألمانيا، كانت نسبة المشاركة في الانتخابات ضئيلة، وقد ورد في إحدى استطلاعات الرأي آنذاك قول إحدى المواطنات اللواتي لم يشاركن في الانتخابات أن لا فروقات حقيقية بين طروحات المرشحين الاثنين يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين. ويمكن رد ذلك إلى انصراف السياسة الأوروبية عن الهموم الاجتماعية مثل الضرائب، توزيع الثروة، العدالة الاقتصادية إلى آخره، لصالح الانحيازات الهوياتية كالبيئة والتوجه الجنسي للبشر والمهاجرين وغير ذلك... الأمر الذي يجعل الباحث لا يجد فرقًا حقيقيًا بين برامج الأحزاب السياسية من جهة وبرامج منظمات المجتمع المدني المتواجدة بكثرة في أوروبا من جهة ثانية.

وهذا ما يشير إلى تراجع السياسة أمام السيل الجارف لسياسات الهوية الذي يجتاح أوروبا والغرب واختفائها  في دهاليز الهويات التي لا تنتهي، ما أنتج نوعًا من فقدان الأمل بالسياسة وبالساسة وبالعملية الديمقراطية التي تحولت إلى مجرد مسارات نخبوية سياسية تسلكها مجموعة أحزاب للوصول إلى السلطة بعيدًا عن مشاركة شعبية، الأمر الذي جعل الديمقراطية نشاطًا فوقيًا متعاليًا يهدف للوصول إلى السلطة.

في هذا الظرف السياسي المنسحب، برز اليمين الأوروبي بروزًا هوياتيًا أيضًا، لكنه محدد وواضح: الهوية القومية. فثمة فرق بيّنٌ بين مرشح يرتكز برنامجه الانتخابي على معالجة طبقة الأوزون مثلًا، وبين مرشح يرتكز على أن حق العمل وفرص العمل للفرنسيين فقط، أو للهولنديين فقط، أو للألمان فقط. وثمة فرق بين من يطرح: ألمانيا أولًا، وفرنسا أولًا.. وبين من يطرح حماية الممرات المائية في غرب إفريقيا وشمال الراين.. باختصار ثمة فرق بين من يطرح برنامجًا يعتبره الناخبون وأهل البلد المعني مباشرًا وواضحًا وذا علاقة مباشرة وحيوية بهم، وبين برنامج لا يمس الناس مباشرة.

هذا هو الفرق بين اليمين وغير اليمين الغربي والأوروبي خاصة. انطلاقًا من ذلك بدا أن لليمين وأنصاره قضية كبرى ينبغي لهم الدفاع عنها وهي تتراوح بين أوروبا للأوروبيين، وبين فرنسا للفرنسيين وإنجلترا للإنجليز وألمانيا للألمان إلخ... فيما ليس ثمة قضية كبرى للأحزاب والشخصيات الأخرى، بل قضايا عامة يمكن أن تحققها منظمات المجتمع المدني بوسائل متاحة (ومدعومة). على هذا فأنصار اليمين ينتخبون بحماس وتطلّع إلى المستقبل، فيما عكف الناخبون الآخرون عن العملية الانتخابية. انطلاقًا من ذلك ركز المرشحون والاعلام الأوروبي ووسائل التواصل الاجتماعي هذا العام 2019 في انتخابات البرلمان الأوروبي على حملة واحدة مفادها هو الحث على المشاركة في الانتخابات كي لا ينفرد اليمين بأوروبا، وبالفعل طيلة السنوات الماضية كان ثمة تخوف لدي الأوروبيين  من صعود اليمين المتطرف، وأسفرت تلك الحملة وذلك التخوف عن ارتفاع نسبة المشاركة في 28 دولة أوروبية إلى 51%، لكنها نسبة قليلة أيضًا نظرًا إلى أن الاقتراع إلزامي لدى بعض الدول: بلجيكا، بلغاريا، لوكسمبورغ، اليونان.. وهذا يدل على أن الأوروبيين لا يزالون يعتبرون أن لا جدوى حقيقية من العملية الديمقراطية في بلدانهم طالما أنها لا تفعل سوى أنها توصل بعض الأحزاب للسلطة فقط دون برامج سياسية واجتماعية حقيقية.

في آذار/مارس 2018، زار وفد من حزب "البديل لأجل ألمانيا" اليميني المتطرف، معادي المهاجرين واللاجئين والإسلام والمسلمين، النظام السوري، ومن هناك شتم اللاجئين السوريين في ألمانيا واتهمهم بالتسول، وبعد الزيارة عاد إلى البرلمان الألماني بوصفه صاحب تمثيل فيه. الحديث الذي جرى آنذاك ينطلق من تساؤلات ذات وجاهة: كيف لحزب أن يزور نظامًا سياسيًا تعتبره الدولة الرسمية لهذا الحزب فاقدًا للشرعية، ومجرمًا يقتل شعبه، وكافة العلاقات الديبلوماسية والسياسية والتجارية مقطوعة معه؟ وهل تغطي الديمقراطية هذه الزيارة؟

الديمقراطية تعني فيما تعنيه حرية الانحياز السياسي، لكن هل تعني إمكانية إقامة علاقة مع عدو وزيارته وإقامة علاقات معه؟

الديمقراطية تعني فيما تعنيه حرية الانحياز السياسي، لكن هل تعني إمكانية إقامة علاقة مع عدو وزيارته وإقامة علاقات معه؟ في الجلسة البرلمانية التي أعقبت الزيارة تلك اقترحت إحدى البرلمانيات أن مكان هذا الحزب، نتيجة لتلك الزيارة، يجب أن تكون في المحكمة وليس في البرلمان، واقترحت أنه يجب عليه تقديم بيانات مالية تكشف المصدر الذي موّل تلك الزيارة... لكن ذلك لم يحدث. بمتابعة العملية السياسية والديمقراطية في أوروبا وألمانيا يمكن اعتبار أن ذلك لم يحدث ليس لأن الديمقراطية الألمانية تسمح لحزب ما، أو شخصيات ما بإقامة تلك العلاقات مع مجرم، بل لأن هذه الديمقراطية، في بعض الأحيان، تكون انتقائية، فالذي منع الادعاء أمام المحكمة هو تحالفات سياسية معينة وليس عملية ديمقراطية، إنما تم هذا كله على مرأى من الديمقراطية وبصمت منها.

اقرأ/ي أيضًا: مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

هذا الصراع على السلطة وانتهاج سلوكيات شائنة من شأنها أن توصل إلى السلطة هو ما يطبع السياسة الأوروبية بطابعه، ويخدش وجه الديمقراطية الذي تناضل شعوب الأرض، والشعب السوري خاصة، لأجل إحلاله في بلدانهم. وهو ما يجعل من عملية نقد هذه الديمقراطية فعلًا ديمقرطيًا هو الآخر في تطلع نحو عودة السياسة لأوروبا وعودة المفاهيم الاجتماعية والسياسية للنقاش لئلا نفقد -نحن الشعوب الذين لم نقترع ولا مرة في حياتنا إلا مساقين بالسواطير لنوافق على أن يحكمنا مجرمين وطغاة إلى الأبد- لئلا نفقد ثقتنا حتى بالديمقراطية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل تخطو السياسة فوق الجسد أم من خلاله؟

المنصّات فقاعة وهمٍ