24-مارس-2019

بلدة التل في ريف دمشق، 2012 (Getty)

بعد أن آل الوضع السوري إلى ما آل إليه، وقد رأى العديد من السوريين أن الثورة التي دفعوا الغالي والرخيص لأجلها- أو بعبارة أكثر دقة: لأجل غاياتها وأهدافها- قد انتهت، أو للدقة أيضًا: انتهت موجتها الأولى. كثرت المراجعات عبر مقالات، وعبر كتب صدرت، وأخرى قيد الصدور (بحسب تصريحات أصحابها)، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي... هذه المراجعات بقدر ما هي حق للسوريين، هي واجب على المعارضة، خاصة وتحديدًا المعارضة التي عملت في المؤسسات التمثيلية والتي اتخذت شرعيتها من حيث طرحت نفسها بوصفها: صوت الثورة. القاسم المشترك بين المراجعات هو البحث في أسباب عدم "نجاح" الثورة في تحقيق أهدافها، خاصة ذلك الهدف العظيم المتمثل بإسقاط النظام.

مراجعة تسلح الثورة السورية لا تنفصل عن أول طلقة حية استخدمها نظام الهمج السوري

تتنوع المراجعات بين من يبحث عن الأسباب في بنية المجتمع السوري من حيث هو -كما يرى بعضهم- مجتمع ريفي، ما قبل مدني، محكوم بعقلية جبروتية، إقصائية، فاقد للبعد المدني والديمقراطي وللأفق التغييري... وأن الثورة كانت ريفية بالكامل، وهذه الثورة، بهذه الصفة، ثورة بلا أمل!

اقرأ/ي أيضًا: "سلاح" السلمية بين سوريا والجزائر

وبين من يرى أن ثقافة المجتمع السوري ثقافة محافظة تهدف إلى الإبقاء على النواظم الثقافية للمجتمع كما هي، فيما أن الثورة "الحقيقية" يجب أن تنطلق من ثقافة غير محافظة، يمكن وصفها بـ"التقدمية" مثلًا تنطوي على فهم شامل ومتجذر لكافة مفاهيم العصر من حقوق الإنسان والمرأة والمثلية والبيئة والتحول الجنسي والجندر وغيره... وبما أن ثقافة المجتمع السوري ليست متجذرة ضمن هذه المفاهيم، أو أن هذه المفاهيم غير محسومة في المجتمع السوري، أو أن هذا المجتمع مضاد لها فإن أية ثورة سورية محكوم عليها بالفشل! 

هذا النوع من المراجعات، كما أرى، هو الأكثر سوءًا. من حيث أنه يقطع الطريق على أي أمل، أو أية رغبة، أو أية مبادرة للتغيير، ويعمل وفق مبدأ: يجب أن تغيروا أنفسكم قبل أن تفكروا بتغيير النظام! وهذه نظرة ثقافوية، استعلائية تنطلق من أن المجتمعات تتغير بإيعاز ثقافي، أو يجب عليها ذلك، هذا جانب. جانب آخر، فإن هذه النظرية تنطلق من نقد المجتمع بدلًا من نقد السلطة، وهذه نظرية سلطوية لطالما لجأت إليها السلطات المستبدة لتبرير استبدادها، ولخلق ديمومة لها في الحفاظ على السلطة وفي ممارسة العسف بلا توقف ضد المجتمع بوصفه مجتمعاً غير مؤهل للتغيير وللديمقراطية... المبدأ الصحيح للفكر الحر، كما أعتقد، هو الانتقال من نقد المجتمع إلى نقد السلطة. وعلى هذا فإن الفكر الكامن خلف هذا النوع من الانتقادات والمحرك لها هو فكر ليس حرًّا، فهو خاضع لنسق تاريخي شديد البأس وقد كرسته ثقافة الحداثة (في تجلياتها العربية غالبًا) عندما لم تتوقف عن إلصاق كافة التهم بالمجتمعات العربية ومجتمعات المنطقة من كونها رعاعية، همجية، متخلفة، دينية... إلى كونها حجر عثرة بوجه عجلة التاريخ التحرري! لم تتم مساءلة هذا النسق، بل لم يتم الكشف عنه أصلًا، الأمر الذي جعل صفات مجتمعات المنطقة والمجتمع السوري ثابتة، بدهية، جوهرانية!

من ضمن المراجعات العامة مراجعة ما يطلق عليه: عسكرة الثورة وأسلمتها! الرأي السائد أن العسكرة أنتجت الأسلمة، فالفصائل المسلحة غالبًا هي فصائل إسلامية، وذلك بعد ظاهرة الجيش الحر الذي لقي، إبان تشكله، قبولًا عامًا بوصفه الجيش الذي رفض الانصياع لأوامر النظام بقتل الناس السلميين. المراجعات العامة للعسكرة تفتقر إلى المعرفة الدقيقة بهذا التحول الخطير، وتقول بمجرد انخداع الثوار بالشرك الذي نصبه النظام لهم: شرك السلاح. متجاهلة العنف العسكري غير المسبوق الذي مارسه، ولم يزل، نظام البراميل، ومتجاهلة التداخل المعقد الإقليمي والدولي بهذا الشأن، وأيضًا المحلي! فمن جهة ثمة سوريون يعتقدون بعدم إمكانية إسقاط هذا النظام سلميًا بدليل عمليات الإفناء التي قادها ولم يزل بحق السوريين، وبدليل أنه كان على وشك السقوط عسكريًا ثلاث مرات وتم إنقاذه من قبل حزب الله والميليشيات، ثم إيران، ثم روسيا.

ومن جهة أخرى، ثمة دول إقليمية ودولية رأت أن مصالحها تقتضي أن يتحول الصراع إلى صراع مسلح وإلى حرب ضارية لذلك بنت إستراتيجية كبيرة لتحقيق هذا الهدف. إن الحديث عن العسكرة لا يمكن أن يكون بالبساطة التي يتم فيها. مراجعة التسلح لا تنفصل عن أول طلقة حية استخدمها نظام الهمج السوري، كما لا تنفصل عن أول تشكيل عسكري تم إنشاؤه لتنفيذ أجندات ليست وطنية. مراجعة التسلح مهمة وطنية كبيرة -شأن مراجعة الثورة بمراحلها كافة- لكن لا يمكن الحديث عنه بالبساطة والقطعية التي تحاول تلك المراجعات عمله. 

وكذلك الأمر بالنسبة لأسلمة الثورة، فقد كثر الحديث عن ذلك دون النظر إلى أن أعداء الثورة هم الإسلاميون (هذه المرة كانوا شيعة)، وأن أول مجزرة ارتكبها النظام كانت طائفية، وهم أول من "ديّن" خطابهم المعادي لها... لذلك لا يمكن الحديث عن الأسلمة بمعزل عن سياقات الحرب التي شنها النظام وميليشياته وإيران وميليشياتها على الثورة وعلى بيئتها... ولا يمكن ربط الأسلمة بالمجتمع السوري انطلاقًا من أنه مجتمع مسلم، في غالبيته.

"أسلمة" الثورة كانت عملًا مخططًا ومنهجيًا ومبنيًا على إستراتيجية النظام وحلفائه

"أسلمة" الثورة كانت عملًا مخططًا ومنهجيًا ومبنيًا على إستراتيجية النظام وحلفائه، وكذلك إستراتيجية إقليمية ودولية.. ولا يمكن، بل من الإجحاف، تناول هذه الحالة كمسلمة متفق عليها!

أما المراجعات ممن كانوا، وبعضهم لم يزل، في مؤسسات المعارضة التمثيلية فهي على قلتها وندرتها وتأخرها المحزن كانت على مبدأ: لست أنا! نوع من التبرؤ والتطهر يقدمه أصحابها، بالإضافة إلى أنها تفتقر إلى التفاصيل، وإلى الإشارة إلى "الأشرار" الذين منعوا "الأخيار" من العمل المثمر... كانت مراجعات عامة حتى ليظن المرء أنها مجرد "كلام فيسبوكي"، وأنها مجرد "قيل وقال".

اقرأ/ي أيضًا: يسار الأسد والوقوف على يساره

قد يكون كتاب الدكتور برهان غليون "عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل- سوريا 2011 - 2012"، حتى الآن، أول كتاب يتضمن مراجعة ومكاشفة من شخص كان في صلب الحركة السورية المعارضة، وكان رئيسًا لأول تشكّل معارض ظهر على أنه صوت الثورة، وهو المجلس الوطني السوري.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حافظ الأسد.. ذاكرة الرعب

سوريا.. جيش في حماية مكتب الرئيس