08-أبريل-2022
Mauritania

مخطوطة قديمة بين يدي رجل في موريتانيا (Getty)

بين بحرين رمليّ ومائيّ يخفض الطائر المعدني المثقل بالرّكب والأمتعة جناحًا ليقترب شيئًا فشيئًا من دارة هذا البلد العربيّ "نواكشوط"، الذي تراه وأنت في الأعالي يتوضّأ بالماء لقدميه ويتيمّم بالرّمل لجبينه وساعديه، ليقف مصليًا الصّلاة واجدًا قبلته بين لا نهائيّتيْ البحر والصّحراء.

نعم، في موريتانيا تُشبه اللّغة العربيّة الصّحراء. فهي - أسرابٌ ومترادفات، أشطارٌ وأعجاز، إعجازٌ وإيماء

تلامس أقدام الطائرة المدرج كما يلامسُ وجهكَ الهواء السّاخن لتدخل من بعد حاضرةً للحاضر ترتدي درّاعة موشاة كجدار أندلسيّ، مشرّعة من جميع الجهات كباحة دمشقيّة ولا نافورة هناك إلا القصيدة.

نعم، في موريتانيا تُشبه اللّغة العربيّة الصّحراء. فهي - أسرابٌ ومترادفات، أشطارٌ وأعجاز، إعجازٌ وإيماء، وهي سراب ما ينفكُّ يسطعُ بين متحدّث ومنشد وهي مدى لا متناهٍ لا سقف له إلاّ السّماء وهي الأرض الأرحبُ حيث الكلّ سواسية كفتحات فَعَل الفعل الماضي. أفعال ماضية مضت وأخرى لن تمضي فهي لا تلتفت إلى "أنيتُ" هذه الفتاة المضارعة المنتهكة التي لا حمى لها ولا مُغيث.

"أ.ن.ي.ت" قد نصافحُها هنا ونجلس إليها أحيانًا ولكننا لا "نُصرِّفُها" إلّا اضطرارًا، إلّا أنّنا عندما نقفزُ إلى حُضنها ننسى كلّ شيء!

واللغةُ العربية تُشبه الصّحراء في موريتانيا حيث حواشي الكثبان وحدودها هي الأخرى تتداخلُ بين الأسماء والمتحرّكات والظّروف الّتي لا تخضع إلّا إلى سطوة السيّد الشعر، بمنطقه الموحّد القافية والسجيّة تحت سقف الغنائية بترفها رملًا وكلامًا.

بين الربع الخالي في صحراء الجزيرة العربيّة الذي نام آلاف السّنوات ليستيقظ على صوت "اقرأ" وبين الرّبع الغنائيّ الّذي يهدهده "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن" يتمدّدُ الجسدُ - الحلم الموريتانيّ وقد أرخى "سدوله" في الشنقيط، هذه العاصمة الكوفيّة التي هاجرت إلى شواطئ بحر الظّلمات هناك بعد أن أرسى موسى بن نصير رمحًا، وحدّق في مدى أزرق أمامه ليخاطبه: يا بحرُ إن كان خلفك ناس لعبرت لهم أدعوهم إلى كلمة الحق.

وكان ناس ولم يكن ناس، فأقام "رباطًا" وكانت البوصلة شماليّة الهوى ولم يصل إلى تلك الأصقاع، ولم تمرّ ريح شرقيّة أندلسيّة لتطرّز جدران الصّوامع هناك ولا لتخدع اللّيل بالنّوافير والمساءات بالشّبابيك المحفورة في الجدران كالحدقات في الوجوه.

لكنّ الشنقيط كانت ولما تزل تقاوم عناد الرّمال التي تزحف "كاللّيل الذي هو مدركي" ولا مدركها. والشّنقيط قصيدة عربيّة سمعتها على لسان راوية مات في باريس وهو يتحدّى الشانزليزيه بمنائر الطّوب ومصابيحها بالنّجوم. لم أقرأ رسومها وحروفها، لكنّي أراها تخرج من قوافيه تلقي رحالها لتقيم بجمال هوادجها وأسرار حكمتها أعمدتها السّبعة في الطّرف الآخر من الصّحراء العربيّة.

أجل صرت أكثر اقتناعًا الآن بعد مرور سنوات على زيارتي لهذا البلد بأن اللّغة العربيّة تشبه الصّحراء أو العكس. جرّب أن تنظر إليها عموديًا من أعلى قمة في عمود الشّعر العربيّ، كأن تتكئ على كتف بن ربيعة، لبيد العامري بأعوامه الثمانين وهو يلقي بوجه الصّحراء معلقته الخالدة التي بـ"منى" تأبد غولها.

بعد أن أرسى موسى بن نصير رمحًا، وحدّق في مدى أزرق أمامه ليخاطبه: يا بحرُ إن كان خلفك ناس لعبرت لهم أدعوهم إلى كلمة الحق

كما يمكنك أن تتسلق إلى نقطة في عامود الألف، هذا الفسطاط الذي أقامت فوقه العربيّة خيمتها تلك الّتي تذكّرك بالخيمة التي ضربها لك الشّعراء الموريتانيّون لاستقبالك على البحر فكانت خيمة على بحر لا على بحر الظّلمات ولا على أوقيانوس الأطلس ولا على المحيط. سترى أنّ امتدادها لحنًا وصدى يمضي إلى مدارات الدّاخل وأنّ لهذه اللغة كثبانها ورمالها التي نحملها في الأعماق. القصيدة خيمة ولها عمود ونسيج ومهاجرون رحّل أبدًا.

خيمة هي ترتطم بموجات البحر العربي الأبهى حيث الشّعر يدخل ملكوته مثل جمل ينأى بأعجازه وإعجازه في ليلة كان لبشرة المساء فيها طراوة العشب الندي ولبتلات الرمال هشاشة الغيمة وللذاكرة وابل؛ أواه.

لم تكن كثبان الرّمل إلا قطيعًا منهمكًا بشرب ما تبقى من برك اللّيل وقد مزّقتها آلاف النجوم. لم يكونا ندّين: الشعر وخوار المحيط فقد هزم الشّعر المحيط وظلّ البحر الطويل يعلو بقوافيه وغواربه. ونحن، بخيمتنا ونشيدنا على شاطئه، مقيمون "لأهلنا محبون".

في تلك الخيمة التي ضربت لي على ذلك البحر؛ ذات ليلة في موريتانيا تذكرت حتى أول شطر في دفتر صباي الشعري حيث كنت يومها أخاف أن أسميه شعرًا، صرت أنبش أحشاء ذاكرة مهجورة مثل نسر جائع يفتك بفريسة دافئة اللحم.

أراني لساعات أتقرّى طفولة، أحاول منهمكًا اللّحاق بركب قافلة أو الترنّم بمقطوعة عربيّة لم تبرح قيلولة النشيد، وقد دخلت منذ سنوات ليله العميق.

كان الأعشى لا يأبه بالمعلقة أكانت حقًا العاشرة أم لا، أمام مرأى هريرة. وكنت، وللمرّة الأولى، أحاول أن أتصوّر بشكل مُلحّ هيئة وملامح شعراء المعلّقات خصوصًا عبيد بن الأبرص الّذي ربما رأيت فتى ذكّرني به في تلك الخيمة.

لقد انتصر "الطويل" على "الأطلسي" وصارت شواطئ القصيد أكثر إيواءً وإيلاءً لمراكب المبحرين والغواة من ورائهم في تلك الليلة التي لم أرَ فيها إلاّ خيمة واحدة محاطة بآلاف النجيمات والجفنات والكثبان والأصداء. خيمة كان فسطاطها العمود الفقري لليلٍ يشبه كائنًا أسطوريًا ونحن أطفال عُراة نلتف على نسيج اللغة والأغاني كبدوٍ داهمهم البرد في ليل أصحر.

بينهم كنت جملًا مثقلًا برحل غريب لا يلحق بماشية "الهيدبى" وهو يقول لنفسه "أين أرض العراق" فيجيبه الركبُ "ها".

ارتديت في اليوم التالي درّاعتي مثل بعير يرتدي هودجًا ومضيت شرقًا باتجاه الشمس والصّحراء واللغة. كنتُ أجفّف عباراتي مثل غسيل رطب في ريح السّموم وأنشر نهاري مثل قطن قديم يخرج من بين طيّات دثار مهجور، كنت أخرج من الرّمل إلى الرمل أحدّث الرمل عن الرمل وأكتبُ الرمل على الرمل وأراني في الرمل والرملّ فيّ.

هي الصحراء اقتربت لتكون أدنى إلى شفتي منها إلى قدمي ولأرى منها موريتانيا وهي مُضاءة بفوانيس من زيت الشّعر، مسوّرة بأطلال ورسوم

كان صديقي يحاول تحديد الموقع الأفضل لكي أقترب أكثر من الأعماق المهجورة فيّ ولكي أمضي بشكل أصفى لحظة الحاضر، لأغسل فيها أقدام السنوات المكدّسة. وكان يبحث بين الفينة والأخرى عن خيمة مثل باريسي يبحث عن أفضل مقهى أو فلاح عراقي يبحث عن أطيب نخلة، كان يفتش بين الكثبان عن "زمكان" تخرج فيه الصحراء كحورية لعاشق في بحر.

كان يبحث بين أكمام الرمل عن أزهار لم يرها قبل وعن حدائق كثبان تسقى من أقدام عارية ومآق مشرقة وكنا نمضي إلى خيمة كما يمضي الفتيان إلى صبوة، أو كما يهرول ابني في باريس وبيروت.

هي الصحراء اقتربت لتكون أدنى إلى شفتي منها إلى قدمي ولأرى منها موريتانيا وهي مُضاءة بفوانيس من زيت الشّعر، مسوّرة بأطلال ورسوم وكأن القلب العربيّ لم يزل "يتلفّت" نحوها اليومَ بعد انهيال رمال السنوات على قسمات الوجه العربيّ.

 

  • تحت عنوان "جهة الصمت الأكثر ضجيجًا"، يطلّ الشاعر شوقي عبد الأمير على قرّاء ألترا صوت أسبوعيًا في حديث أو مقالة في محبة الشعر وأهله.