27-أغسطس-2021

خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، 27 آب/أغسطس 1982 (Getty)

يكاد يكون الحصار توأم الفلسطيني، لا مستقر له في بلد أو مدينة إلا وسط الحصار ليواكب فيها الخسارات، ومن ثم ينتقل إلى مكان آخر يعيد فيه بناء حلمه الذي لا يفارقه، الرحلة لا تنقطع من منفى لمنفى يسابق فيها الحلم الذي سيفتح له مسارات طريق العودة إلى فلسطين، محطات الشتات لا تنتهي وفي كل محطة هناك الآلاف من قصص العذاب والخسارات، هي تكثيف لمعنى الألم بأن تكون فلسطينيًا في هذا الزمن.

يكاد يكون الحصار توأم الفلسطيني، لا مستقر له في بلد أو مدينة إلا وسط الحصار ليواكب فيها الخسارات

تحل في هذه الأيام الذكرى 39 لخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، تجربة بحلوها ومرها وبالانتصارات التي حصلت والخسائر القاسية، بنجاحات التجربة والإخفاقات، بالخيارات السليمة والخاطئة، كل تلك التناقضات عبرت عن أهم محطة رافقت الكفاح المسلح الفلسطيني المعاصر.

اقرأ/ي أيضًا: في حزيران.. أيام للشهداء والحريّة

لا نبالغ إن قلنا إن ما بعد بيروت رسم خط الذهاب نحو النهاية لأهم تجربة فلسطينية معاصرة، ونحن هنا لا نتهم إنما نطرح أسئلة نحاول أن نفهم تلك التجربة ومآلاتها مع الكثير من العتب.

قيل الكثير عن وجود الثورة الفلسطينية في لبنان، هناك من ثمن التجربة واعتبرها محطة كانت لبناء تحالف فلسطيني لبناني في وجه الانعزالية والطائفية التي حكمت البلاد، ومن اعتبرها تجربة خاطئة غرقت في حروب الآخرين وكانت أبعد ما تكون عن فلسطين.

بعد حوالي 40 سنة من الخروج يحق لنا أن نقول ما حدث عبارة عن زلزل رسم معالم جديدة تبعتها ارتدادات لا زالت أثارها قائمة حتى اليوم، نحاول أن نستوعب ما حدث ولماذا كان الخروج حدًا فاصلًا بين مرحلتين، يستسهل من يبحث عن إجابة سريعة بالقول إن لبنان ضاق بالوجود الفلسطيني، لأن مسار الأحداث يبرز أن حجم المؤامرة كان كبيرًا، ويمكن أنه أكبر من أن يتحمله بلد كلبنان، لكن تقاطع المصالح وأخطاء القيادة الفلسطينية التي تتكرر في كل مرحلة مفصلية عزز من هذه الفرضية.

الاجتياح الإسرائيلي للبنان كان متوقعًا، كل الدلائل توفَّرت لقيادات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية قبل سنة وأكثر من موعد الاجتياح، حول عزم إسرائيل شنَّ هجوم واسع على الأراضي اللبنانية والخطة بالأساس كانت معدة مسبقًا، ونتساءل هنا لماذا فاجأ الهجوم الإسرائيلي الجميع؟ لماذا لم يكن أحد يتصوَّر إلى أي مدى يمكن أن تصل إسرائيل؟ مع وجود سابقة في اجتياح العام 1978 والذي لم تقدر القيادة وقتها كذلك مداه؟ أم أن الجميع اعتبر الأمر واقعًا لا محالة واستسلموا للقدر المحتوم.

بعد حوالي 40 سنة من خروج الفلسطينيين من لبنان يحق لنا أن نقول ما حدث عبارة عن زلزل رسم معالم جديدة تبعتها ارتدادات لا زالت أثارها قائمة حتى اليوم

منذ بدأ الاجتياح كان الشيء اللافت تداخل مسار أحداثه حد التناقض، مواقع سلمت دون قتال وهرب مسؤولوها، ومواقع قاتلت لآخر طلقة، هرب الحاج إسماعيل قائد القوات المشتركة في الجنوب مع غيره من القادة متذرعًا ببرقية وصلته من القيادة لا أحد يعرف لها مصدرًا، في حين استبسل الشهيد عزمي الصغير ورفاقه بصور حتى الاستشهاد، لا تزال قصص أطفال الأ ر بي جي في مخيم عين الحلوة تروى جيلًا بعد جيل، وظل الإسرائيلي مكسورًا إلى اليوم لما يأتي على ذكر قلعة الشقيف، في حين تم استقباله في قصر المختارة.

اقرأ/ي أيضًا: تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم

في بيروت كانت صدمة حصار أول عاصمة عربية، قصف متواصل لم يكن له معنى سوى الانتقام، كثافة النيران وشدتها كانت تقول نحن هنا لا نطرح خيارًا ثالثًا، إما الركوع والاستسلام وإما الفناء عبر إتباع سياسة الأرض المحروقة، أطبق شارون الحصار على بيروت الغربية واستبسل الصامدون داخلها، قاوموا ولم يتراجعوا، قالوا هنا مقبرة الغزاة، وجوه لم تنبئ عن شيء سوى أن خيار المقاومة لا عودة عنه، لكن وسط مشاهد الصمود هل كان للقيادة رأي آخر؟ هل الحديث بأن القتال في بيروت هو لتحسين شروط الخروج؟ كلام كثير قيل وتشعب الأحاديث وتعددت الآراء لكن غالبيتها للأسف قدمت قراءتها وفقًا لمكان تموقعها، بالمقابل هناك من ذهب إلى أن الحركة الوطنية اللبنانية هى من صارحت الفلسطينيين بأننا وصلنا إلى الحد الأقصى والمدينة لم تعد تحتمل ولا البلاد كل هذا الدمار.

وسط القصف المستمر وتخلي العرب والحلفاء، بالإضافة للضغوط الداخلية والخارجية وصلت القيادة الفلسطينية إلى قرار الخروج، لكن هل كان القرار فرديًا حقًّا ولم توافق عليه كل القوى كما تحدثت بعض الأطراف؟ الغالبية تنصلت من قرار الموافقة على الخروج وحملت ما حدث لقيادة منظمة التحرير ورئيسها، ما كان مؤكدًا في ذلك المشهد أمام العيان أن الجميع خرج دون استثناء وأولهم من سجّل اعتراضه.

حصل الخروج لكن الأسئلة بقيت تطرح، هل امتلكت قيادة الثورة القدرة للمماطلة لكسب الوقت لتقوية موقف الصمود والإصرار على البقاء في بيروت؟ كل الشواهد اعتبرت أن الخيار لم يكن مستحيلًا لكنه صعب لعدة أسباب، بعضها ذاتي والبعض الآخر مرتبط بعلاقة الثورة بمحيطها اللبناني، المتحالف معها والمعادي لها، هنا شهدنا مآلات الممارسات الخاطئة والأعمال الارتجالية وتراكمات الأفعال المشينة التي نفّرت جزءًا من الحاضنة الشعبية من دون الحديث عن الطرف الآخر الذي كان يتحين الفرص لإنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان، بالمقابل ما هي خيارات البقاء التي امتلكتها الثورة؟ قرار الصمود بحد ذاته كان الخيار الأهم بمعزل عن كل الضغوطات والمعوقات التي لم تكن لتصمد أمامه، لكن تطور الأحداث أثبت أن هذا الخيار لم يكن مطروحًا أصلًا، لذا الشعار الذي رفعته القيادة من أن بيروت هي ستالنغراد العرب سقط مع أول جولة مفاوضات بحثت في مسالة الانسحاب، وهنا يمكننا القول بأن خيار القيادة من البداية هو لتحسين شروط الانسحاب.

كان مشهدًا يعبّر عن نهاية مرحلة، ‏حين غادر المقاتلون الفلسطينيون المدينة، باتّجاه السّفن التي نقلتهم إلى منافٍ جديدة، مشاهد قاسية لنساء يودعن أزواجهن المقاتلين، عناق حار، قبلة أخيرة، دموع تنهمر، عيون الأطفال مثبتة باتجاه البحر تراقب أباءها وهم ينطلقون نحو المرافئ والمنافي الجديدة، كل تلك الصور والمشاهد لا يتحدث عنها أحد ولا على وقْعها القاسي ولا على ارتداداتها، لم ينتهِ المشهد مع مغادرة آخر المقاتلين، فالحرب مستمرة والفاجعة أكبر، المذبحة كانت في انتظار النسوة والأطفال.

تكثيف المأساة الفلسطينية كان في صبرا وشاتيلا، وكأن المقاتل الفلسطيني أمعن في هذا الخطأ القاتل بأن سلك مسار التيه والانتحار إلى أن وصل إلى أوسلو

يتحدث الشهيد صلاح خلف أبو إياد في خطاب له بالمجلس الوطني الفلسطيني الذي عقد بالجزائر بعد الاجتياح الإسرائيلي، وقال "كنت في الكويت فلم اسأل عن الخروج أو أسباب الخروج، انتقلت إلى قطر وكانت هناك أمامي المذبحة، فوجدت الجماهير كلها تسألني ووجدت نساءنا اللائي كنا يلبسن أجمل الملابس ويحملنا لنا الزهور، وجتهن في قطر يلبسن السواد وعندما تحدثت معهن قليلًا صرخت بي واحدة وقالت، أنت تقول كل شيء يعوض، إننا شعب لا يخاف من الشهداء، فالذين ذهبوا في المذبحة يكملون الآلاف الذين سقطوا في المعارك، أجابتني والمغتصبات ما رأيك بهن؟ سكت للحظات وكضمت غيظي وآلمي وقلت لها يا أخت إنه جرح المقاتل، قد يصاب في عينه وقد يصاب في قلبه وقد تصاب أخت من الأخوات في أي جزء من جسمها لا يعني هذا إلا جرح المقاتل وشرف المقاتل".

اقرأ/ي أيضًا: 6 مصادر تشرح لك كل ما تحتاج إلى معرفته عن مجزرة صبرا وشاتيلا

لا أحد يشكك في صدق كلام الشهيد أبو إياد ونحن على أعتاب ذكرى المذبحة، لكنني لم أستطيع استيعاب هذا الخطأ القاتل للقيادة الفلسطينية، ما حدث بعد الانسحاب هو خلاصة كل الخيارات الخاطئة، هل كانت القيادة من السذاجة أو عدم المبالاة ألا تدرس تبعات قرار الانسحاب وما سيترتب عنه؟ كيف تترك المخيمات الفلسطينية وظهرها للحائط دون أية وسيلة للدفاع؟ ضحايا المذبحة هم شرف المقاتل كما قال أبو إياد والمقاتل لا يتخلى عن شرفه فلماذا انسحب المقاتلون وتركوا كل هؤلاء العزل وسط الضباع التي خبروها في محطات ومواقف ومعارك عدة، لا تلتزم بشرف الخصومة ولا بوعد ولا بميثاق ولا باتفاق؟ لذا مهما كان حجم الضغوطات إلا أن تكلفة البقاء في بيروت لن تكون بحجم هول المذبحة التي حصلت، وللأسف كل المبررات التي سيقت عن ضمانات عربية ودولية للمخيمات، سقطت مع أول قدم للقتلة وطئت المخيم.

تكثيف المأساة الفلسطينية كان في صبرا وشاتيلا، وكأن المقاتل الفلسطيني أمعن في هذا الخطأ القاتل بأن سلك مسار التيه والانتحار إلى أن وصل إلى أوسلو، التي أفرزت سلطة أبعد ما تكون عن طموحات الوطنية للشعب الفلسطيني، فقط لينتقم من نفسه ومن خساراته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنيس صايغ.. أرشيفٌ لفلسطين

عبد الرحيم جابر.. قصة فدائي