19-سبتمبر-2022
لوحة لـ محمد بزرقي/ إيران

لوحة لـ محمد بزرقي/ إيران

هناك ملاحظة نقدية وجهّها إليّ أحد الأصدقاء بعد قراءته لكتابي "بورتريه لامرأة غائبة"، امتدح صديقي في ملاحظته النقدية مَدخل كتابي وأبدى إعجابه الكبير به، وقد دفعتني ملاحظته تلك إلى التفكير في ذلك المدخل ومضامينه وما يُفضي إليه من مسائل تتعلّق بالأدب والاشتغال الأدبي على العموم.

وضع شكل النصّ الأدبي كشرط سابق لكتابته، يَحرم المبدع من القدرة على تطويره، وجعله نقطة انطلاق لنصوص أخرى محتملة

ومدخل كتابي هو نصّ أعلنُ فيه عن مضمونه، وأفصُح فيه عن تمرّدي على أشكال الكتابة الأدبية السائدة، وأنني أنحازُ دائمًا للنصوص النثرية الحرة المتجاوزة لعتبة التصنيفات، والتي تأتي في باب أسميته في نصّ المدخل باب الصعلكة، وقلتُ في هذا النصّ: "إنّ من بين أشكال الكتابة التي أفضّلها ما دخل منها في باب "الصعلكة"، أحبّ هذا الباب وكلّ الذين يدخلون منه إلى أساليب كتابية بعيدة عن النمذجة والتعريف، أحبّ من الكتابة كلّ ما لا يُعرَّف، أحبّ النصوص النثرية التي تجعلني أتلصّص على سطورها فأعثر بينها على شبهة إيقاع شعري تواطأ مع كاتبها ودخل إليها عمدًا، أحبّ الشعر الذي أعثرَ بين أشطره على سردية شاردة أضاعت طريقها ودخلت إليه عن طريق الخطأ، الخطأ الذي يمشي وراءه شاعرٌ يُحدّث نفسه بخاصية التعدي ويقول: الشعرُ يسير وراء القصد/التكثيف، القصة تسير وراء القصد/السرد، فالسرد والتكثيف واحد. أحبّ القاصين الشعراء، ومن يحترفون النثر الحرّ ويُضيفون إليه لمسة ساخرة، أحبّ الروائيين الذين يدخلون إلى العوالم الروائية من بوابات السير الذاتية، أحبّ الذين يعملون على كسر صلابة المقالات السياسية بمطرقة الحروف الأدبية المنمقة، وأحبّ أن يعثر أحدُ أساتذتي على موسيقى شاعرية بين أحد أبحاثي الأكاديمية فيوبخني قائلًا: "هذا ليس بحثًا، هذه قصيدة حبّ"، فالأخيرة فقط هيَ من تُعطيني موضعي بين ثلة الصعاليك الكتابيين التي أحبّ".

أفضى بي التأمّل في مضمون المدخل إلى التفكير في مسألة أنواع وتصنيفات النصوص الأدبية، وعلاقتها بتجربة الكتابة الإبداعية كتجربة حرّة يُمكن أن يكون تحديد نوع وتصنيف النصّ الأدبي قبل الدخول فيها مدمّرًا لها بالكلية.

فادتني حلقات التأمّل والتفكير إلى مقال مُلهم لقاسم حداد أورده في كتابه "ليسَ بهذا الشكل ولا بشكلٍ آخر"، تحت عنوان "سيرة النصّ"، وتناول فيه مسألة مساعي المبدعون في إحداث ما أسماه "الاختراق التعبيري"، أي تجاوز أشكال الكتابة الأدبية السائدة، والوصول بنصوصهم إلى أشكال كتابة أكثر حرية وتمردًا، وذلك في سبيل غاية مفهومة تستهدف كسر سلطة الشكل في النصّ الأدبي، والتحليق به خارج فضاءات التحديد والتقييد.

يُورد حداد في مقاله عن سلطة الشكل في النصّ الأدبي أنّ هذه السلطة تظهر عندما يتعامل المُبدع مع أشكال القول الأدبي التي تمّ ابتداعها منذ المراحل المبكّرة لتكوّن الحضارة الإنسانية، كما لو كانت أشكال مستقرة وثابتة، وغير قابلة للإضافة والتطوير، فطبيعة هذا النزوع من المبدع نحو أشكال القول الأدبي المختلفة (رواية، شِعر، نثر.. إلخ) تجعله يُضفي على أشكالها هذه طابعًا من القداسة المزيفة، فيصيرُ خاضعًا في كتابته لسلطة نابعة من قداسة الشكل.

فتلك القداسة تُمارس عليه سلطتها، ويظهر تأثيرها على منتجه الأدبي النهائي، وذلك لأنّ وضع شكل النصّ الأدبي كشرط سابق لكتابته، يَحرم المبدع من القدرة على تطويره، وجعله نقطة انطلاق لنصوص أخرى محتملة، فبحسب حداد: "كلّ نصّ يُمكن أن يصير مادة أولى، أو نقطة انطلاق، لنصوص أخرى قيد الاحتمال، إذ لا قداسة لشكل ولا تكريس لنمط".

هناك أهمية كبيرة لإزالة هالة القداسة عن تصنيف الأنواع الأدبية الموروثة لأشكال التعبير، فهذه القداسة تُمارس سلطتها على كلا المبدع ونصّه الأدبي، فتجعل المبدع خاضعًا لحدود النصّ الشكلانية

 وبحسب حداد فإنّ تصنيف شكل النصّ الأدبي كأساس وشرط قبل البدء بتجربة الكتابة "من شأنه أن يُفسد العديد من التجارب الإبداعية، التي يُمكن أن تُغني الكتابة الأدبية". ويَقصد حداد في كلامه السابق بأنّ  خضوع المبدع لسلطة الشكل في النصّ الأدبي قد يُؤدي إلى إفساد تجربة الكتابة الإبداعية بالكامل، وذلك عندما يغيب عن ذهنه صفته كمبتكر وخلاق ومتجاوز للأطر الاعتيادية، وأشكال التعبير العادي، أي أنّ هذا الخضوع يَدفع عنه رغبة الاختراق التعبيري أو الوصول إلى نماذج لامألوفة من التعبير، وتلك الرغبة بحسب حداد هي "ضرب من التمرّد الذاتي ضدّ الشرط الموضوعي للواقع"، وهي كما أورد طريقة الفنان في التعبير عن "ذاته المتمردة دومًا، ضدّ موضوعية المواصفات السائدة والثابتة، خاصة، تلك التي تتحوّل إلى كابح مركب أمام تطلعات الإنسان المتغيرة يومًا بعد يوم".

أخيرًا، هناك أهمية كبيرة لإزالة هالة القداسة عن تصنيف الأنواع الأدبية الموروثة لأشكال التعبير، فهذه القداسة تُمارس سلطتها على كلا المبدع ونصّه الأدبي، فتجعل المبدع خاضعًا لحدود النصّ الشكلانية، وتجعل النصّ محاصرًا بهذه الحدود، وتحرم المبدع من القدرة على الاختراق التعبيري أو تجاوز أشكال التعبير المألوفة، كما تحرم النصّ الأدبي من حقّه في أن يكون نقطة انطلاق محتملة لنصوص أخرى مختلفة ومتجاوزة لنمطية الشكل.

وإنّ هذه الدعوة لتجاوز سلطة الشكل في النصّ الأدبي لا تعني بأنّه لا يُمكن للمبدع أن يبدأ نصّه الأدبي بتحديد مسبق لشكله سواء أكان نثرًا أو شِعرًا أو رواية أو غيرها، لكنّ من ضمن ما تعنيه بأنّه لا ينبغي للمبدع أن يقع تحت سلطة الشكل التي فرضها لنصه، وأنّ عليه أن يُبقي نصّه مفتوحًا لما يتولّد عنه أثناء تجربة الكتابة من أفكار وإضافات، فلا بأس بإدخال الإيقاع في الكتابة النثرية، ولا ضرر بوجود لفتة سردية في الكتابة الشعرية، ولا حرج طبعًا في تجاوز الحدود الشكلانية المفترضة للنصّ، فكلّ تلك الإضافات التي قد تجود بها قريحة المبدع أثناء كتابته للنصّ يُمكن أن تُشكّل علامة فارقة ترتقي به، وتُطوّر من آليات الكتابة لدى كاتبه وخالقه، لتجعله يبدو -باستلهام بودلير- شاعرًا في النثر، أو ناثرًا في الشعر!