ضمن سياق استشراقي مفعم بالصوابية السياسية، جاءت زيارة الوفود الرسمية الغربية إلى سوريا، والتي كان على رأسها وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاجاني، بالإضافة إلى نظرائه الفرنسي جان نويل بارو، والألمانية أنالينا بيربوك وغيرهم من باقي الدبلوماسيين.
توجه تاجاني فور وصوله إلى دمشق لزيارة الجامع الأموي، في حين التقى بارو عددًا من رجال الدين المسيحيين، أما بيربوك فقد دعت خلال لقاء قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، بـ"الاعتدال واحترام حقوق الأقليات"، وكانت تصريحاتهم الداعية إلى حماية الأقليات والحفاظ على حقوقهم ومشاركة جميع "المكونات" سابقة لوصولهم إلى دمشق.
يأتي الغرب إلى سوريا اليوم بصوابية سياسية تحاول تظهر كنزعة "حقوقية وأخلاقية"، وهذا يعيق في حال استمراره العمل على خلق حراك سياسي نضالي مُنظم يخلق تغييرًا ماديًا مشكلًا قطيعة مع الظروف التي أدّت إلى سيطرة النظام المخلوع؛ وبالتالي قطع الطريق أمام أي نظام مشابه قد يحتكر السلطة والعمل السياسي تحت غطاء خطاب "المكونات والأقليات" الذي يندرج تحت بند "الطائفية السياسية".
والصوابية السياسية هي حزمة من المقولات المعيارية التي تشكل الرؤية العامة للحياة المؤسساتية والاجتماعية اليومية باعتبارها تعبيرًا عن الثقافة الأسمى ونمط الحياة الأكثر رقيًا. وهي تناسب اكتساب الأفكار وليس نقاشها، ويؤخذ عليها أنه تُقيد حرية الرأي والتعبير، إذ تُجبر الأفراد على تبني لغة ومفردات معينة، مما قد يمنع النقاش الصريح حول قضايا حساسة ويجعل الخروج عن ضوابطها "إساءة"، كما عندما يصبح المزاح تنمرًا والحديث عن الطوائف "طائفية".
العلمنة في المشرق لم تكن عاملًا مباشرًا في نشوء الطائفية السياسية، لكنها ساهمت في تحويل الطوائف إلى كيانات سياسية نتيجة عوامل مثل التدخلات الخارجية، سواء في الإدارة الداخلية
الصوابية السياسية الغربية تروّج اليوم للدفاع عن حقوق الأقليات والفئات المضطهدة والهويات المحرومة من الفرص العادلة والتمثيل الثقافي والسياسي، وتقول إنها تعكس التزامًا بالعدالة واحترام التنوّع. تدعو هذه الصوابية إلى تجنّب العبارات التي تحمل دلالات عنصرية أو تحيزًا ضد أي مجموعة "حراسة اللغة" رغم استخدام ألفاظ مثل تمثيل الأقليات في سوريا وتمثيل المكونات السورية، وهي هنا تقسم ولا تجمع على أسس وطنية لأنها تُسيّس الطائفة، في حين يكون الخطاب سياسيًا عندما يدعو إلى حماية "حقوق السوريين".
سوريا النمطية
يعتبر الرحالة الفرنسي ليون دو لابورد (1807 ـ 1869) في كتابه "رحلة إلى سوريا"، أن حدود سوريا هي الحدود الدينية التي ذكرت في الكتب المقدسة، ويقول في مقدمة كتابه: "تُعد سوريا بمجملها قبل كل شيء أرضًا دينية، فهي الأرض المقدسة بمعانيها كلها، وهي أرض العهد القديم والإنجيل والصليبيين والحج".
ويربط المستشرقون بين سوريا وهويتها المسيحية خاصة، والدينية بشكل عام، حيث كان السفر إلى سوريا يعد حجًا. وذكر كثير من المستشرقين مدن دمشق وحلب وحماة وحمص وقلاع الحشاشين الذين مازالوا أسطورة نسجها "العقل الاستشراقي".
وهنا نتحدث عن سوريا النمطية بلاد الطوائف، والمذاهب والأديان، بلاد الروح لا العقل كما يراها الاستشراق. وبما أن الطوائف موجودة في المجتمع فالحديث عن وجودها طبيعي، لكن وصفها بالمكونات والفسيفساء و"جميع الألوان" هو جانب من الطائفية السياسية التي تقف عائقًا أمام المشاركة السياسية.
أزمة العلمنة والمؤسسة الدينية
يأتي هذا الخطاب وسط أجواء من العلمنة غير المكتملة في المشرق، والتي ساهمت في إعادة تشكيل الهويات الطائفية، ونقلتها من كونها هويات اجتماعية وثقافية إلى هويات سياسية.
إلا أن العلمنة في المشرق لم تكن عاملًا مباشرًا في نشوء الطائفية السياسية، لكنها ساهمت في تحويل الطوائف إلى كيانات سياسية نتيجة عوامل مثل التدخلات الخارجية، سواء في الإدارة الداخلية، واعتماد نظم تمثيلية غير عادلة.
الطائفية السياسية لم تكن نتيجة طبيعية للعلمنة، لكنها نشأت بسبب التفاعلات المعقّدة بين العلمنة والهويات التقليدية والتحديات السياسية والاجتماعية. إذ يمكن أن يكون الشخص العلماني الذي يؤمن بتحييد الدين سياسيًا، شخصًا طائفيًا، كما يمكن أن يكون الشخص المتدين غير طائفي.
أما دور المؤسسة الإسلامية (شيعية ـ سنية) في تشكُل الطائفة الدينية فبدأ "مع الصراع الصفوي العثماني، الذي سرّع وتائر بناء المؤسسة الفقهية العثمانية ومأسستها على أساس المذهبية الحنفية، وفي الوقت نفسه عمل الشاهات الصفويون على بناء مؤسسة فقهية شيعية إمامية وخلال القرن الأول من الصراع الطويل بين العثمانيين والصفويين. لقد تطورت المؤسستان الفقهيتان واضلعتا بوظائف الضبط الاجتماعي الأيديولوجي والتكوين الأيديولوجي والتنشئة الاجتماعية وفق مذهب الدولة"، وهذا يشير إلى أن مقولة الطوائف الدينية كانت دائمًا قائمة وستبقى والطائفية أصيلة في طبيعة المجتمعات العربية هي مقولات "لا تاريخية".
نذكر فترة حكم العثمانيين لأنها تزامنت مع صراعات كبرى في المنطقة، مثل النزاعات مع الإمبراطورية الصفوية في الشرق. في هذه الصراعات، غالبًا ما تم استغلال الطوائف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية.
في الأنظمة العلمانية الظاهرية مثل لبنان، جرى اعتماد نظم تمثيل سياسي مبنية على الطوائف، الذي قسّم السلطة على أسس طائفية، وهو ما أضفى طابعًا رسميًا على الطائفية وجعلها جزءًا من البنية السياسية
يحول الخطاب الاستشراقي المصوب سياسيًا "الهويات إلى حصون منيعة بدلًا من أن تكون معابر وجسور" كما يقول أمين معلوف. في الحالة السورية أيام النظام المخلوع كانت الطائفية متضمنة في بنية النظام، أي كانت "طائفية نظام الحكم والامتيازات"، وليست طائفية التبعية لمذهب معين.
أما في الأنظمة العلمانية الظاهرية مثل لبنان، جرى اعتماد نظم تمثيل سياسي مبنية على الطوائف، الذي قسّم السلطة على أسس طائفية، وهو ما أضفى طابعًا رسميًا على الطائفية وجعلها جزءًا من البنية السياسية.
الطوائف والاتصال الجغرافي الاجتماعي
عبر التاريخ، وخاصة أيام حكم الدولة العثمانية، جمعت الأسواق السورية تجارًا وحرفيين من خلفيات دينية وعرقية متنوعة، مما ساهم في تعزيز التواصل والتفاهم بينهم، كانت هذه الأسواق نقاط التقاء يومي بين أفراد الطوائف المختلفة، مما عزز من فرص التعاون والعيش المشترك. وساهم النشاط الاقتصادي المتداخل بين الطوائف في تخفيف التوترات وخلق علاقات عملية رغم الفوارق، وهو ما بدأ اليوم مع التوحيد الجغرافي لمعظم أنحاء البلاد تقريبًا، إذ تجد اليوم التجار والباعة من إدلب في مدينة سلمية وفي مدن الساحل على سبيل المثال، كما أصبحت إدلب برمزيتها - كانت تديرها هيئة تحرير الشام - مركزًا تجاريًا وسياحيًا أيضًا للسوريين من جميع المناطق، ما يعني بدء التفاعل. تسبب اختلاف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بين الطوائف أحيانًا في شعور بالغبن أو التمييز. كانت بعض الطوائف تتمتع بنفوذ اقتصادي أو ثقافي أكثر من غيرها، ما خلق توترات اجتماعية. يوضح ما سلف أن وجود الطوائف والأديان ليس المشكلة، بل المشكلة هي أزمة الدولة في سوريا.