05-فبراير-2023
مرثية مالك بن الريب

لا نكاد نجد في الشعر العربي حالة من الجزع والقنوط كتلك التي نجدها في قصائد رثاء النفس. ما معنى أن يرثي الإنسان نفسه؟ كيف يقترب الشاعر من نفسه كمشروع ميّت؟ لماذا يصدر الشاعر حكما بالإعدام على نفسه ويكتب شهادة وفاته بيده؟ رثاء النفس لحظة إبداعية عجيبة، يتّحد فيها الرّاثيّ والمرثيّ معا، خلافا للمعتاد من قصائد الرّثاء العربية. الذات الحية، هنا، هي الموضوع الميّت.

كيف يقترب الشاعر من نفسه كمشروع ميّت؟ لماذا يصدر الشاعر حكما بالإعدام على نفسه ويكتب شهادة وفاته بيده؟

ولأنّ رثاء النفس يفترض تيقّن الشاعر من قرب أجله، فإنه لم يتحوّل لظاهرة كبرى في الشعر العربي. لا نجد لدى أساطين الشعر كالمتنبي وأبي تمام وأبي نواس نماذج شبيهة، وحتى حين مرض الشعراء العظماء وسجّلوا مرضهم شعرا، كالمتنبي في قصته الشهيرة مع الحمّى، فإنهم لم يقتربوا من الموت بما يكفي ليروا أنفسهم عبره. رثاء النفس هو ألا يعود لدى الشاعر قدرة، ولا رغبة، في المقاومة والصمود.

يحتفظ الشعر العربي بنموذج مدهش في رثاء النفس عبر قصيدة مالك بن الريب الأسطورية، وسأحاول في الفقرات التالية أن أحاور القصيدة وقائلها، وأن أفهم الرؤى الأساسية التي ينطلق منها الشاعر في رثاء نفسه. وسأبدأ أولا من خارج النص، لأقول إن رثاء مالك لنفسه يطرح قضيتين بالغتي الأهمية تاريخيا وأدبيا.

القضية الأولى هي أن هذه هي القصيدة الوحيدة التي حفظها الشعر العربي لمالك بن الريب، والشاعر بهذا ينتمي لطائفة من الشعراء الذين أطلق عليهم لقب "شعراء الواحدة"، كالمنخّل اليشكريّ، وابن زريق البغدادي، وغيرهم. هؤلاء شعراء ولدوا مكتملين، عبر نصّ واحد لا ثاني له، بالمعنى الحرفي للعبارة، إذ لا يملك هؤلاء ديوانا كاملا، ولم ينقل الرواة قصائد أخرى لهم، وبالمعنى المجازيّ أيضا، إذ إنّ القصيدة الواحدة هذه تكون عادة عينا من عيون الشعر العربي، وهو المبرّر الذي من أجله سيمنح تاريخ الشعر مساحة كبيرة لشعراء الواحدة رغم ضآلة إنتاجهم الكمّيّ. بهذا المعنى فإن قصيدة الواحدة ما كان لها أن تحفظ أصلا لولا فرادتها. هي واحدة شاعرها، وواحدة شعريتها.

المفارقة في حالة مالك بن الريب أن الشاعر ظلّ حيّا في تاريخنا تحديدا لأنه قتل نفسه في شعره. لو اختار مالك مقاومة إحساسه بدنوّ الأجل لما كتب نصّه، ولما عاش عبره إلى الأبد. بوّابة مالك لحياته في الشعر العربي هي بوّابة موته. مالك هو جهيض القصيدة العربية، ذاك الذي ولد ميّتا، ذاك الذي اختار أن يموت شعرا كي يعيش شعره. هل هي حيلة الشاعر الذي أدرك حين اقترب أجله أنه لم يكتب بعد؟ في لحظة هزيمته الجسدية أمام الموت، لم يجد مالك وسيلة للانتصار على الفناء سوى أن يحول موته لحكاية شعرية سيظل العرب يقرؤونها ما حيينا. شهرزاد كانت تروي لتعيش، ومالك كان يموت ليروي.

القضية الثانية تتمثل في حكاية القصيدة نفسها كما روتها كتب الأخبار، وكما أشار الشاعر سريعًا إليها في نصّه. ورغم تضارب الروايات، إلا أن المتعارف عليه هو أن مالكا كان مجاهدا في إحدى المعارك في العصر الأمويّ، وبعد انتهاء المعركة التي كانت بعيدة عن وطنه (نجد) مرض مالك أو لدغته أفعى، وأدرك قرب موته في ديار غريبة بعيدة، فكتب قصيدته.

تثير هذه الحكاية قضايا عدّة، يهمّني منها هنا أن مالكا وقصيدته شهادة نادرة لجندي يسجّل فيها مشاعره إزاء خروجه للجهاد، وبعده عن وطنه، ويعلن فيها ندمه على هذا الخروج، وتمنّيه لو يعود الزمن به إلى الوراء فيبقى بين أحبابه. بهذا المعنى فإن القصيدة وثيقة تاريخية هامة تمنح صوتا لا نسمعه عادة في كتب التاريخ حول الجنود والمحاربين الذين شاركوا في الفتوحات والمعارك الكبرى. القصيدة تنتمي لما يعرف في علم التاريخ الحديث بـ "التاريخ من أسفل" history from below، حيث نتجنّب السرديّات الكبرى قليلا، ونستمع للمهمّشين والبسطاء وهم يروون أحاسيسهم ورؤاهم عمّا يجري، والأثر المباشر لما يجري على حياتهم الخاصة، بعيدا عن تأطير ما يجري ضمن إطار مشروع الأمة أو الدولة. فجيعة مالك خاصّة تماما: فجيعة إنسان أدرك، رغم نبل القضية التي يحارب من أجلها، أن هذه الحرب قادته لموت لم يكن يتمناه، في أرض لا يعرفها.

ظل مالك بن الريب حيّا في تاريخنا تحديدًا لأنه قتل نفسه في شعره

يعبّر الشاعر عن أحاسيسه هذه عبر طريقتين أساسيتين. الطريقة الأولى هي اللعب بثنائيات متعددة تتكرر في القصيدة: ثنائية البعد والقرب، الماضي والحاضر، الموت والحياة. تلائم هذه الثنائيّات محور القصيدة الأساسي، وهو انشطار ذات الشاعر نفسه إلى جزئين: راثٍ حيّ، ومرثيّ ميّت، وينتقل الشاعر بين هذه الثنائيّات ليخلق تقابلا بين ماضيه المفعم بالحياة والمرأة والفروسية وحاضره المثقل برائحة الموت والغربة والوحدة. ومنذ اللحظة الأولى للنص، يؤسس الشاعر لمركزية "هناك"/الغضا، الذي يتمنى الشاعر لو لم يتركه ويأتي إلى "هنا"/أرض الأعداء:

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة                                               بجنب الغضا أزجي القلاص النّواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه                                       وليت الغضا ماشى الرّكاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا                                       مزارٌ ولكنّ الغضا ليس دانيا

ألم ترني بعت الضلالة بالهدى                                              وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا

وأصبحت في أرض الأعاديّ بعدما                                        أراني عن أرض الأعاديّ قاصيا

الطريقة الثانية هي رسم حالة من الصّراع النفسيّ الذي يعيشه الشاعر، بين تذكّر ماضيه الذي يمنحه إحساسا بالقوة والتصبر، وبين عودته لحاضره الذي ينزع عنه وهم تلك القوة، ويضع أمامه حقيقته كغريب مفارق يتحسّر على موته الموعود بعيدا، وحيدا. في تسلسل مدهش من الأبيات، يبدأ الشاعر بالمراوحة بين حاله في الماضي والحاضر عبر استخدام مفردات في صيغة المثنّى والجمع، كي يمنح نفسه إحساسا بالألفة والجماعة:

فلله درّي يوم أترك طائعا                                                   بنيّ بأعلى الرّقمتين وماليا

ودرّ الظباء السانحات عشيّة                                                يخبّرن أني هالكٌ مَنْ ورائيا

ودرّ كبيريّ اللذين كلاهما                                                   عليّ شفيقٌ ناصحٌ لو نهانيا

ودرّ الرّجال الشّاهدين تفتّكي                                                بأمري ألّا يقصروا مِن وثاقيا

وفي ذروة هذا اللجوء نحو الكثرة، يسقط الشاعر فجأة في حفرة واقعه بلا رتوش ولا تحسينات، واقعه كفارس فرد هجره الجميع، بعد أن هجر هو الجميع. يعود الشاعر إلى المفرد، يختفي البشر جميعهم، ويبدأ نواح قلّ نظيره في الشعر العربي:

تذكّرتُ من يبكي عليّ فلم أجد                                              سوى السّيف والرّمح الرّدينيّ باكيا

وأشقر محبوكا يجرّ عنانه                                                   إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا

لماذا رثى مالك نفسه؟ إضافة لما ذكر أعلاه، فإن رثاء مالك ينبع من خوفه الشديد من ألا يبكي عليه أحد، وهو خوف ناتج من موته بعيدا عن أحبته. لم يكن مالك مرعوبا من الموت ذاته، بقدر ما كان مرعوبا من أن يموت في صمت، بلا نشيج زوجة بجانبه، أو أم تبكي شبابه، أو ابنة تمسك بيده وهي تذرف الدموع على أبيها، أو قريبات ينحن أو يلطمن على مسامعه.

هذا الهوس بالحاجة لسماع البكاء هو ما يفسّر حضور البكاء الهائل في القصيدة، وهو حضور موزّع على أجزاء القصيدة وليس محصورًا بجزء محدد منها. يؤكد الشاعر أحيانا أنه لن يبكي عليه سوى فرسه وأدوات حربه، كما في البيتين أعلاه، ثم بعد بضعة أبيات نراه يتساءل عما إذا كانت زوجته ستبكيه حقا، كما كان هو سيفعل لو ماتت قبله:

فيا ليت شعري هل بكت أم مالك                                           كما كنتُ لو عالَوا نعيّك باكيا

ولأن الحاجة لسماع البكاء، ولسماع كلمة "بكاء" نفسها، هي محور القصيدة كما أفترض، فإن مالك يختم نصه بالبكاء، ويؤكد على أنه يستحق البكاء عليه، وأن قريباته من النساء لو كنّ حوله الآن لملأن الفضاء بكاء. مات مالك وحده، متحسّرا على بعد هؤلاء الباكيات عنه، لكنه نجح في تحويل قرائه من العرب، رجالا ونساء، إلى شركاء في البكاء:

وبالرّمل منّا نسوة لو شهدنني                                               بكين وفدّين الطبيب المداويا

فمنهنّ أمّي وابنتاي وخالتي                                                 وباكيةٌ أخرى تهيج البواكيا